إيكو بريس متابعة –
بقلم عبد الرفيق الحسيوتي
من تهافت الوزارة… إلى وزارة التهافت !
تسـري في الكون نواميـس دقيقة وسُنن مقدّرة بمقدار تتيح للنظام البديع أن يسود مُحققاً التوازن والاستقرار، وهو كحبات العقد إِنْ سقطت واحدة انفطر العقد كله… هذا ليس مجرد كلام منمّق بل حقيقة قائمة، لا توجد عشوائية أو صُدف قادرة على إبـداع بيئة متوازنة Un ecosystème ، العمل الدؤوب واحترام التنوع هو الكفيل بذلك.
حيثما وُجد العبث وُجد الخراب، وحيثما اختل الميزان حلّ الطوفان، والطوفان نوعان طوفان أقصى وطوفان أدنى.. والناظر يجد أن ردة فعل الطلبة هي بمثابة طوفان أدنى على تخبط الوزارة الوصية في التعامل مع قطاع هو أشبه بنظام حيوي شديد الحساسية للقرارات الفجائية الارتجالية، هو قطاع يتطلب الحكمـة البالغة والتأني الحريص قبل الإقدام على أي خطوة للتغييـر
وليس عبر الميزاجية المقيتة والعبث الصريح.
لا جرم أن إصدار قرار الهيكلة الجديدة دون خطة طريق واضحة وإجراءات مصاحبة لازمة أجبر أطبـاء وصيادلة الغد على العزوف عن مكانهم الطبيعي ووضعهم الأصلي، بدلاً من زيادة سعة المدرجات وتوسيع أراضي التداريب وسن التراسنة القانونية وإعداد دفتر التحملات البيداغوجية وتشجيع الطلبة على قبول التغيير عبر الإنصات لأرائهم وتحسين تعويضاتهم وهلم جر من إجراءات تحتوي التغيير وتساير التوازن القائم، كان كل هم الوزيرين هو الرفع من أعداد الطلبة لتخريج ’’منتوجات’’ أكثر وحذف سنة كاملة لضمان مدة أقل في إطار مخطط وطني لتسريع تحول المنظومة، فهل أصبحت الوزارة مهووسة بالسرعة لتدارك تأخرها ولتماشي عصر السرعة؟!
في عرف السياسة، السياسي الماهر الحاذق الباشق الغضنفر هو من يجيد تجنب الأزمات وامتصاص الصدمات، ونحن كما قال عمرو بن العاص لمسيلمة الكذاب :’’ والله إني أعلم أنك تعلم أني أعلم أنك كاذب’’، نقول لوزارئنا والله إنا نعلم أنكم تعلمون أننا نعلم أنكم لستم مهرة حاذقين بل كل رجائنا فيكم هو عندما تجثم الأزمة على واقعنا أن تكونوا ممن يجيدون التعامل معها أملاً في تجاوزها… والحمد لله لم يخب هذا الرجاء، فوزارتنا بادرت منذ الوهلة الأولى إلى الاستجابة للطلبة مع استحضار المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقها، فكان أن قدمت مقترحاً وزارياً اختارت له عنواناً بديعاً : إعادة النظر ودشنت حقبة جديدة من الوعود ’’الصادقة’’ التي لم ترى النور أي منها إلى يوم الناس هذا.
عندما يئست الوزارة من تصديق كتاكيت الطلبة لوعودها الصادقة، باشرت لحمل عصا السلطة ملوّحة لهم أن ’’كلوا البطاطس’’ إسوة بالأم الحنون مع طفلها العاق 🙂 وأوصدت أبوابها لأزيد من أربعة أشهر تاركة آلاف الطلبة فريسة لذئاب الدهر الفتاكة من قلق واكتئاب ويأس وإحباط، مراهنة على صاحب النفس الطويل بقمع المسيرات وإصدار العقوبات بين طرد وإقصاء وإيقاف في حق الممثلين وحل المجالس والنوادي لكنها نسيت أو تناست أن محطة 2015 و2019 منحت اطباء وصيادلة الغد نَفَساً ماراطونياً في كد دؤوب لإنتزاع حقوقهم ممنين النفْس بشعارهم الخالد ’’ ما ضاع حق وراءه مطالب’’
قوطعت الامتحانات العادية لدورتها الأولى واقتربت الثانية في تماسك طلابي عجيب، أحست الوزارة بلهيب المقاطعة وتكاثرت عليها الصيحات من هنا وهناك فأيقنت أن الطلبة مقبلون على المقاطعة مرة أخرى، حنئذٍ فقط تراجعت وفتحت قنوات الحوار بتدخل من رئاسة الحكومة وكان واضحاً أنها عازمة على اجتثاث الأزمة من جذورها عبر الاستجابة للطلبة، قدمت عرضاً حكومياً بعد طول انتظار، طمأنت الطلبة حول القيمة القانونية، المعنوية والمادية للديبلوم، رفعت التعويضات ومنحتهم ’’وجبات غذائية غنية بالبروتين’’ 🙂 ثم ماذا ؟ هل تراجعت عن التقليص إلى حين اكتمال دراسة المشورع بإشراك مختلف الأطراف؟ طبعاً لم تفعل بل جاءت إلى دفعات الطلبة وقالت : أنت أيها السلك الثالث لا مشكلة معك ستكمل سنواتك السبع، أنت أيها السلك الثاني نفس الشيء باختلاف بسيط سنغير في خطة اللعب قليلاً 6+1 أما أنت أيها السلك الأول ومن سيأتي بعدك فتشكيلتك مغايرة 4+2+1 والآن كفوا عني الكلام وأسمعوني رصيص الأقلام!
أسفرت المقترحات الوزارو_حكومية عن شرخ في البيت الداخلي للطلبة، نقاش مستفيض وتضارب في الآراء وخروج عن النص أحياناً فبدى الأمر كأنه النهاية واحتكم الطلبة كعادتهم لصناديق الإقتراع غداة الجموع العامة ومالت الكفة عند الصيادلة إلى قبول العرض الحكومي وفي الضفة الأخرى كان جلياً أن الكفة تميل إلى نفس الإتجاه وكان الهدوء الذي يسبق العاصفة وقُلبت النتيجة في الدقيقة 90 لترجح رفض المقترح ب%51 من أصوات الطلبة وجُن جنون الوزارة الميراوية فسحبت البساط من تحت الوساطة الحكومية وبَرمجت الامتحانات ضاربةً عرض الحائض الحوارَ وأبوابه!
شكل التسرع الميراوي العصاة التي أعادت المياه إلى مجاريها ووحدت الطلاب من جديد فكانوا في موعد مع مقاطعة الامتحانات للمرة الثانية تحت شعار ’’وإن عدتم عدنا’’ وسطّر الطلبة برنامجاً نضالياً جديداً وُوجه في كثير من الأحيان بالقمع والترهيب، توالت الأيام وتراجعت الوزارة عن خطتها التقسيمية وقالت مبشّرة أن الخطة 4+2 ستكون من نصيب الدفعات القادمة بينما ستكمل الدفعات الحالية ست سنوات ولها الحق في تداريب إضافية إختيارية من ثلاثة أشهر إلى السنة الواحدة لكنها لم تُزِل صفراً ولم تُعد ممثلاً بل اكتفت ب’’ دخلوا للامتحانات وحتى جاجة ما تصعاب علينا ’’
التاريخ يُكتب على يد طلبة الطب والصيدلة بمقاطعة جارية لامتحانات الدورة الاستدراكية للأسدس الثاني موقعين بذلك على أطول إضراب مفتوح في تاريخ المغرب الحديث وليجدوا أنفسهم رسمياً بحكم القانون راسبين أو مُرسبين من طرف وزارة تتقن فن اللامبالاة، وفي خضم هذا الاحتقان المتواصل يروج بين الطلبة ملخصٌ للهيكلة الجديدة يضم الإستغناء نهائياً عن السنة السابعة ولا أثرٍ لها ولو كان اختيارياً مع تكديس للدروس وإضافة وحدات جديدة ستجعل المسار الأكاديمي لطلبة الطب بمثابة الصراع من أجل البقاء وتغيير جذري بالمرور من نظام Les compensations إلى نظام Les credits دون أن يهمس الأساتذة ببنت شفة لا مرحبين ولا رافضين بل كأنهم غير معنيين!
بعد 7 أشهر من الإضراب المتواصل لا يبدو أن الوزارة تلقت رسالة الطلبة، بل الأدهى والأمر هو كونها ترفض النزول من برجها العاجي والتجاوب بحسن نية وتفضيل مصلحة الوطن العليا على نرجسيتها البائدة، هي سبعة أشهر من التخبط والتهافت في القرارات، قرار يُنسيك مساوئ سابقيه… حتى بات التهافت صفة ملازمة لها فهل تكون الوزارة مقتنعة أنها امتصت صدمة الطوفان الأدنى وتسعى لإحداث طوفان أقصى؟ أم أن هذه مبالغة والحقيقة المرة أن وزارتنا المسكينة سقطت في مستنقع ولم تجد السبيل للخروج منه وكلما حاولت زادت الطين بلة فأضحت بحق وزارة التهافت.
Discussion about this post