منير أبو المعالي عن أخبار اليوم
أحمد بوهبوه، 47 عاما، يعيل زوجة وأربعة أطفال. مكبلا بشروط الفقر وهي تحاصره من كل جانب في بلدته حيث يقيم، كاستييخو (فنيدق)، قرر أن يخوض مغامرته الأخيرة في هذه الحياة، بأن يقطع المسافة بين بلدته وبين مدينة سبتة سباحة، حيث كان يأمل أن يشكل ذلك فارقا في حياته. لسوء حظه، لم يبلغ وجهته، فقد التقطت قوات خفر سواحل في سبتة جثته وهي طافية في غور بحري هناك. ولسوف يدفن في مقبرة للأهالي المسلمين بعد يوم.
لا تشكل حياة وموت أحمد خبرا هامشيا في هذه الأرجاء، فهي ليست حالة من بين آلاف أخرى ممن تشجعت وتخلصت من مخاوفها، وقررت أن تهاجر سرا أملا في تغيير حياتها. عادة ما كانت تُهمل هذه الحوادث، ويجري تصنيفها بانتظام في فقرة «مختصرات» في النشرة الرئيسة للأخبار. كلا، إن الموت على ضفاف شواطئ سبتة لم يكن يوما احتمالا مطروحا على أهالي هذه المناطق في شمال البلاد. كانت الصلات بسبتة تغذي حياة الآلاف من الناس، سواء بواسطة الأعمال الاعتيادية، أو بتهريب المخدرات أو السلع. هذه الصلات تلاشت بشكل تدريجي، ثم، في نهاية المطاف، تحولت هذه المناطق من واجهات للعيش الرغيد، ووجهات لقضاء العطل، إلى أمكنة مهجورة.
قضيت عطلة قصيرة في بلدة كاستييخو، حيث نشأت، لكنها بالكاد تصلح لأن تكون مكانا للاسترخاء. في يومين فحسب، قضى شخصان يتحدران من هذه البلدة نحبهما وهما يحاولان السباحة إلى سبتة. كان بهبوه أحدهما. الضحية الأخرى اسمه بدر المتوكل، 21 عاما. أطلقت قوات خفر السواحل حملة بحث عنه، وبعد مضي حوالي أسبوع على فقدانه، أعلنت عائلته وفاته، وتلقت العزاء فيه بالرغم من أن مصيره بقي مجهولا. التقيت والده، كان رجل شرطة مرور قضى وقتا طويلا في هذه البلدة قبل أن يتقاعد هناك. كان يغالب دموعه وهو يتمسك بخيط رفيع من التفاؤل في أن يعثر على ابنه حيا. حينها لم يكن قد مر سوى يومين على فقدان أثره. عاش الرجل مرحلة الازدهار في هذه البلدة، وهو الآن يدفع جزءا من فاتورة انحدارها إلى الحضيض.
منذ الصيف الفائت، فقد ستة شبان، على الأقل، أرواحهم وهم يحاولون تنفيذ هذه القفزة الخطرة، وفي المقابل، فإن قائمة الأفراد الذين نجحوا في تنفيذها طويلة. وفي العادة، يهتم الجيران في سبتة بشكل أكبر بهذه الحوادث أكثر مما تفعل السلطات المغربية، التي، في الغالب، تتهم شبكات تهريب المخدرات بلعب دور ما في عمليات الغرق هذه. لكن التقليل من شأن هذه الحوادث لا يمكنه إخفاء معضلة رئيسة؛ السلطات نفسها التي تسعى إلى جعل هذه الحوادث «أحداثا هامشية»، هي نفسها التي عملت على وضع جدار من العوائق الحديدية على طول 5 كيلومترات يحيط بضفاف الشواطئ هناك، وتتخذ دور إعاقة للكتل البشرية التي تتدفق بشكل يومي على الشاطئ لتنفيذ القفزة الأخيرة. كانت القوات المساعدة ترابط في تلك الحدود باستمرار، لكن مهمتها كانت دوما أن تعرقل محاولات هجرة المرشحين المتحدرين من دول جنوب الصحراء. ثم تغير ذلك على نحو درامي.
تذكرني قصة كاستييخو (فنيدق) ببلدة فلينت، التي كانت قلبا صناعيا بولاية مشيغان، حيث كانت تتركز صناعة السيارات، وصنعت تاريخا كان مصدر فخر للأهالي المحليين. وفجأة، تغيرت الأوضاع بشكل حاد، حيث أدى تدهور تلك الصناعات، وسوء الإدارة السياسية، إلى تحويل تلك البلدة كليا إلى خراب. هناك فيلم وثائقي حول المصير السيئ لهذه البلدة عنوانه Roger and Me، وصاحبه هو ابنها مايكل مور. يذكرني دوما بما يحدث لبلدتي أيضا.
على خلاف بلدة فلينت، فإن كاستييخو لم تعش مرحلة الازدهار في حياتها بسبب وجود بنيات صناعية. حتى الآن، ليست هناك نواة لأي شيء صناعي، ولم تكن هناك قَط. ولحوالي أربعين عاما، تُركت هذه البلدة لتأمين مصيرها على الحدود، ولقد فعلت ذلك كما يجب. بتهريب السلع والمخدرات بشكل رئيس، حقق الأهالي نجاحات هائلة، وعُذيت الصورة النمطية حول رفاهية الشمال حتى تضخمت. على نحو خاطئ، أنفق السكان أموالهم على مشروعات بسيطة. ولسوف تغلق أغلب تلك المشروعات بعد مضي عام واحد فقط على الأزمة الحالية. أما السياسيون المحليون، فهم بالكاد يملكون فكرة عما ينبغي أن يكون عليه مستقبل بلدتهم، ولم يخططوا لأي شيء تقريبا. ومضت السنوات على هذه الثقة الجوفاء في أن مكروها لن يحدث بالسوء الذي حدث فعلا.
في الواقع، إن ما يحدث في هذه البلدة يتردد صداه على طول شمال البلاد. مثل قطع دومينو، تتدهور حياة الأهالي في البلدات المجاورة، وتنهار الاقتصادات المحلية التي كانت تُمول عادة من موارد التجارة غير المتوقفة في معبر باب سبتة. كان ذلك المكان يعيل آلافا من الناس، وفجأة تُركوا لمصيرهم. لقد كتبت مرارا عن هذه المأساة المحلية، وهي تبدو للكثيرين وكأنها مجرد خدش على الهامش، فيما هي في حقيقة الأمر قصة «مغرب عميق وممزق». ولطالما كان السكان المحليون يتباهون بمجدهم الخاص، وتبعا لذلك، فقد كان عسيرا تصنيف هذه البلدات «مغربا غير نافع» فيما يقضي بها الملك عطله.
لنترك الماضي إذن؛ ولنطرح التساؤل الجوهري: كيف أدارت السلطات عملية التحويل القسرية، كما المفاجئة، لنظام اقتصادي بالكامل؟ ببساطة، يمكنني القول؛ عن طريق تجاهله. وكما يحدث عادة بالنسبة إلى هذه المناطق، فإن موقعها الجغرافي يبعدها أكثر إلى الهامش. ليس هناك ما يمكن فعله لبلدات أُنشئت على عجل لتقديم وظيفة وحيدة؛ الملاذ الآمن للأشخاص الذين يعملون في معبر حدودي. لقد شكلت هذه الحدود ثقافتها بين الأهالي، وهم الآن مطالبون بتغييرها على نحو سريع. تعرض السلطات بعض الفتات أحيانا كي تطوق الآثار المدمرة لعملية التحويل هذه، ولقد قدمت مشروعا لمنطقة تحميل لوجستيكي بمقدوره أن يوفر بعض الوظائف البسيطة، فيما تحاول الجماعات منح وظائف في شركات مفوض إليها تدبير أعمال النظافة، وفي بعض المرات، تفعل ذلك بواسطة بعض بطائق الإنعاش الوطني. هذه وسائل علاج لم تشكل يوما مخرجا لأزمة تصيب بنية مجتمع محلي بالشلل. تعتري النظرة المركزية للسلطات الحكومية إلى الهامش أعراض الازدراء، وعدم الاكتراث. لم تغير ذلك، بشكل كبير، الأحداث الاجتماعية في الريف وجرادة.
على كل حال، تواجه السلطات مشكلة غير متوقعة في تعبئة الموارد لمعالجة وضعية لم تُدرس بعناية. أصبح التهريب من الماضي، وبعض المطالبات باستعادته تبدو شاردة ومشوشة. ومع ذلك، فإن بعض الأوضاع الخاصة التي فرضتها السلطات نفسها لا تساعد الجهود المبذولة للبحث عن مخرج. لا يسمح الوضع الجمركي على الحدود هناك بأي شكل من أشكال التبادل التجاري، والمسعى القائم لتحويل تلك البلدات إلى مناطق تتكل على الاقتصاد السياحي مازال يواجه بالتباطؤ، كما ببعض البيروقراطية كذلك. فيما الضغوط لجعل ميناء طنجة المتوسط يتحمل جزءا من تبعات الأزمة لا يجري تصريفها بالطريقة المناسبة.
يتطلب تنفيذ الاستراتيجيات المرتبطة بمستقبل بلدة كاستييخو، كما لقريباتها في الجوار، وقتا أطول. وعلى كل حال، ليست هناك بيئة مساعدة على تطوير سريع للاقتصادات المحلية. لكن، في تلك الأرجاء، لا يملك الناس أي شيء، وبينما تمضي السنون، يستمر الشبان في تنفيذ القفزة الأخيرة. من الصعب أن تطلب منهم وقتا إضافيا.. حسنا، يتوقف ذلك على كمية الدم المتدفق في وجهك.