إن المتتبع لدورات مجالس الجماعات الترابية بشكل عام، ومجالس الجماعات بشكل خاص، لا بد أن يدرك وجود أزمة عميقة بخصوص التمثل الذهني لمفهوم الأغلبية والمعارضة في علاقته بالمهام المتعين القيام بها في إطار اختصاصاتها لتحقيق مصالح الساكنة، كما يعكس أيضا وجود قصور حاد في التصور بشأن التصرفات والسلوكات العقلانية المتعلقة بممارسة مهام أعضاء الأغلبية والمعارضة في هذه المجالس.
فالأغلبية تسعى جاهدة في الغالب الأعم إلى إثبات أن كل ما تقوم به هو الصواب المطلق، وأن ما تذهب إليه المعارضة لا يغدو أن يكون مزايدات زائفة هدفها الأساس التشويش على نجاحاتها وإنجازاتها المبهرة في كافة المجالات المتصلة باختصاصاتها.
أما المعارضة فمن جهتها لا تدخر جهدا في توصيف أن جل أو كل ما تقوم به الأغلبية يصب في غير مصلحة الساكنة بل تذهب إلى تسويد كل ما تقوم به هذه الأخيرة واحتقار كل حديث عن إنجازاتها ونعته بأقدح الأوصاف لتثبت في الأذهان بأن تدبيرها من أسوء ما كان.
أين الخلل في هذه المعادلة ؟
[2] والحقيقة عندي – التي تظل نسبية على كل حال – أن الأغلبية في غالب الأحوال لابد أن تنجز وتحقق أهدافا تنموية متصلة باختصاصاتها في حدود معينة، بصرف النظر عن الخوض في أولوياتها التدبيرية وعدالة توزيع الموارد المالية على تراب الجماعات التي تسيرها.
هذا، وقد يعتري أداء هذه الأغلبية قصور و نقائص وربما اختلالات في بعض الأحيان بل حتى خروقات في تدبيرها للشأن الترابي.
وعليه، فلا بد أن يتضمن خطاب الأغلبية في سياق الحديث عن تدبير الشأن الترابي إنجازاتها المحققة بكل موضوعية وتجرد، وكذلك إخفاقاتها المسجلة بكل شجاعة وجرأة، وذلك بشكل عقلاني ومتوازن يثمن الاختيارات الانتدابية للمواطنين ويفتح صفحة لطموحاته المشروعة التي تبرز أهمية الاستمرار في هذه الاختيارات الانتدابية.
إن تركيز الأغلبية على الحديث عن إنجازاتها المحققة أمر مفهوم وطبيعي بل مسألة ضرورية في التواصل بشأن المجهودات المبذولة من طرفها في تدبير الشأن الترابي.
أما أن تتحدث هذه الأغلبية عن إخفاقاتها وقصورها في أداء المهام الموكلة لها في حدود معقولة بشكل موضوعي ومتوازن قد يبدو أمرا غريبا و غير مألوف، بل قد يعد في غير صالحها قد تستغله المعارضة في إبراز ضعفها وانتقادها بشكل يؤثر عليها.
وهذا في تقديري غير صحيح، لأن هذا الحديث في العمق يصب في مصلحة الساكنة لأنه يتيح لهم معرفة حدود وإمكانيات الإصلاح، وكذلك مؤهلات فريق التدبير الأغلبي في هذا الإصلاح خصوصا أنها تتشكل من عدة مكونات قد لا تكون على انسجام دائم، كما يمكنهم من معرفة المشاكل البنيوية والهيكلية التي تتطلب تدخلات مؤسساتية متعددة لحلها.
كما أن هذا الحديث يصب أيضا في مصلحة الأغلبية نفسها حيث يتم من خلاله التأكيد على مصداقية خطابها المتعلق بحقيقة هذا التدبير وكشف مختلف جوانبه، مما سيسهم في توسيع دائرة المشاركة الشعبية في صنع القرار التدبيري من خلال الإقبال المكثف للساكنة على حسن اختيار العنصر البشري الأفضل للقيام بهذا التدبير بالنظر إلى استشعار حجم التحديات والصعوبات التي تواجه هذا التدبير على أرض الواقع، وذلك لا يكون إلا بعد تثمين مصداقية هذا الخطاب وواقعيته وكشف إمكانيات الإصلاح وحدوده.
ملاحظات على مواقف المعارضة
[3] كما أن الحقيقة عندي – التي تظل أيضا نسبية على كل حال – أن المعارضة في غالب الأحوال لابد أن في انتقادها قدر من الصواب وقسط من الحقيقة بصرف النظر عن طموحها بشأن إزاحة الأغلبية من مكانها بالوسائل المشروعة للحلول محلها وتنفيذ ما تراه صوابا، واستحضار واقع الحال بما له وما عليه من إكراهات وصعوبات تدبيرية.
وفي هذا السياق، وجب التأكيد أن مبالغة هذه المعارضة في تشخيص سوء التدبير أمر واقع لا محالة بقدر معين، وأن انحراف تقديراتها عن جادة الصواب لأسباب ذاتية بعيدة كل البعد عن الواقعية مسألة واضحة للعيان بنسبة مهمة.
وعليه، فإن خطاب المعارضة في سياق الحديث عن تدبير الشأن الترابي لا بد أن يعري قصور ونقائص تدبير الأغلبية على مختلف المستويات وربما سوء تدبيرها أو حتى فسادها إن وجد بكل موضوعية وتجرد، وكذلك يتعين على هذا الخطاب الحديث أيضا عن إنجازات هذه الأغلبية في حدود مقبولة، وذلك بشكل عقلاني ومتوازن بما لا يدع المجال للتشكيك في جدوى المشاركة في الاختيارات التدبيرية، خاصة في ظل هذا الوضع المتسم بصور من القتامة والسوداوية التي تحاول هذه المعارضة نشرها حول هذا التدبير في خطابها، حيث يمكن ذلك من فتح صفحة طموحات الساكنة نحو تحقيق واقع أفضل مما هو موجود في ضوء هذا الخطاب.
إن تركيز المعارضة على قصور ونقائص أداء الأغلبية وكذلك سوء تدبيرها وربما الاختلالات والخروقات التي ترتكبها هي مسألة عادية وطبيعية ومنسجمة مع مقصد المشرع في تنصيب المعارضة لمراقبة وكشف أي انحراف تدبيري.
أما الحديث عن إنجازات الأغلبية في حدود مقبولة قد يعد مسألة غير مستساغة بل غريبة لأن في ذلك إقرار بنجاح نسبي للأغلبية، وبالتالي مبرر لاستمرارها في تدبير الشأن الترابي في المستقبل، وهو ما يتعارض مع تطلعات المعارضة الهادفة إلى الحلول محل الأغلبية من أجل القيام بما تراه مناسبا ويصب في مصلحة الساكنة وفق تصوراتها.
وهذا عندي خطأ لأن الحديث عن الإنجازات والإخفاقات وربما الاختلالات أو الخروقات يمنح صورة واقعية للمواطن عن حقيقة التدبير كما هو في الواقع، ويؤكد أن صوته له قيمة وأنه هو عمود أي تغيير قد يحدث وأنه مصدر السلطة التي تفضي إلى الإنجاز أو التي تفضي إلى عزل من لا يقم بالإنجاز.
فإن كان كل التدبير سيئ وكل شيء أسود فلماذا المشاركة والمساهمة من خلال أي موقع في هذا التدبير أصلا ؟
بل إن هذا الحديث يسهم في إعادة المصداقية للخطاب عن الإصلاح وأن الانخراط فيه من أي موقع له قيمة. بل يقطع الطريق عن كل من يغذي الخطابات العدمية أو السوداء بشأن أن التغيير ممكن ولو في حدود محدودة.
كما أن هذا الحديث هو نقيض ما تدعو له مختلف المقاطعات المتعلقة بالمشاركة في العملية التدبيرية التي تبدأ من حسن اختيار من يقود عملية الإصلاح أو يساهم فيها.
[4] تأسيسا على ما سبق ذكره، يمكن القول أن التزام خطاب الأغلبية والمعارضة بالحد الأدنى بما جاء به التفصيل آنفا، يمكن أن يشكل مدخلا أساسيا في إعادة الاعتبار للتدبير الترابي بشكل خاص والعمل السياسي بشكل عام، وبالتالي المساهمة في تحقيق التنمية السياسية التي يسعى إلى تحقيقها الجميع والتي لها أثر عميق في التنمية الترابية.
إن هذا الالتزام لن يفرضه إلا العمل الحزبي الجاد والمسؤول من خلال قيادات راشدة على المستوى المحلي والإقليمي والجهوي والوطني وتؤطره القوانين التنظيمية بما يصب في مصلحة الديمقراطية الحقيقة.
[5] هذا، ويتعين التمييز بين التدافع الذي يحدث في الغالب الأعم بين المعارضة و الأغلبية من أجل تجويد التدبير الترابي – التي يتعلق بها هذا التفصيل – وبين المعارضة وشخص واحد تُختزل فيه الأغلبية، حيث يكون هذا الأخير زعيمها ورئيس مجلس الجماعة في الوقت نفسه، وكذلك يتعين التمييز بين الأغلبية المعروفة والمعارضة المختزلة في شخص واحد الذي هو زعيمها خصوصا في الجماعات ذات الكثافة السكانية الصغيرة.
فهذا الوضع بعيد كل البعد عن المنطق الذي سبق التفصيل فيه آنفا. ذلك أن الزعيم أو الرئيس في هذه الحالة له أحكام خاصة سيأتي التفصيل فيها لاحقا في سياق طبيعة التدبير الترابي الذي يمس مصالح الناس ويؤثر في حياتهم اليومية في ظل وجود هذا الزعيم أو الرئيس على رأس هرم التدبير الترابي أو المعارضة بهذا الشكل.
وفي هذا السياق، يجب رسم الحدود الفاصلة بين الأغلبية على النحو المعروف والأغلبية المختزلة في شخص زعيمها ورئيس المجلس، وكذلك بين الأغلبية والمعارضة المختزلة في شخص زعيمها بشكل دقيق وواضح لا يترك المجال لأي لبس من خلال مؤشرات موضوعية ووقائع وأحداث كاشفة لواقع الحال دون تضخيم أو مغالطات.
*
مصطفى الحشلوفي – أستاذ باحث بجامعة الحسن الثاني
المزيد من المقالات ذات الصلة :
الدكتور مصطفى الحشلوفي يكتب .. رأي في التنمية الترابية المندمجة


















Discussion about this post