بين لجنة الأخلاقيات وصفقة دواء الوزارة… إلى أين يمضي الوطن ؟
من كرم القدر القاسي أن يتأثث أسبوعان متتاليان بحدثين مؤسفين، خاذلين، محبطين، قصما بحجر التلبس ظهر فكرة دولة المؤسسات، وأخلاقيات الفعل العام، وسمو القانون والمساواة أمامه. فقد قدّم النائب عبد الله يوانو، عضو المجموعة النيابية للعدالة والتنمية بمجلس النواب، مشكوراً، معطيات ـ لم يفندها وزير الصحة ـ تفيد تسهيل هذا الأخير استفادة شركة زميله في الحزب وفي الحكومة وفي المسار المهني السابق، من صفقة تزويد الوزارة بمادة كلوريد البوتاسيوم، كاشفاً بالمناسبة ارتفاع رقم معاملات صفقات وزارة الصحة مع الشركة المذكورة بعد تولي الوزير الزميل مسؤولية القطاع المنتكس.
كما نشر الصحفي حميد المهداوي، مشكوراً، شريط فيديو مسجلاً من طرف مؤسسة اللجنة المؤقتة، يوثق لجلسة مثوله أمام لجنة “الأخلاقيات”، وتوثيقات أخرى لجلسة “التداول” و“تطبيق القانون” المنظم لمهنة الصحافة، كاشفاً وزن الأخلاقيات لدى لجنة الأخلاقيات في ميزان اللغة وميزان الأسلوب والاستقلالية، وميزان القانون، وميزان إجراءات حماية أخلاقيات المهنة، وأجواء تنفيذ مدونة الأخلاقيات في حق الصحفي حميد المهداوي.
إن ما حدث يتجاوز دائرة النازلتين، وما رشح منهما من إسنادات إضافية لواقع الأزمة الأخلاقية العارمة التي ترزح تحتها منظومتنا المؤسساتية وأفق الإصلاح والتغيير والتخليق الذي نطمح إليه؛ ليكشف ـ بإخلاص ـ الجزء العضال في عطب عقيدة نظامنا المؤسساتي، والذي ينتظم ـ في اعتقادي ـ حول واقعين دامغين: من جهة، سياسة الضخ الممنهج لنخب “الهشاشة الأخلاقية” التي تتكلف ـ باسم الديمقراطية ـ بتطويع المكتسبات الديمقراطية، وتتحكم في آلة تأويل وتفعيل المقتضيات الدستورية والقانونية والتنظيمية لصالح مشروع الديمقراطية الشكلية، المعنى المقصوص والفعل والسريان؛ ومن جهة أخرى، تكريس واقع تعطيل مبدأ المحاسبة برهن إعماله لسلطة القرار السياسي بتوجهاته وحساباته ورهاناته، وليس لسلطة الدستور والقانون والمؤسسات المكلفة بالرقابة والمحاسبة.
من قسوة الصدف أنها حملت إلى العموم ـ من خلال نازلتي صفقة الأدوية ولجنة التأديب والأخلاقيات ـ عنوانين مركزيين لأزمة المؤسسات في بلادنا: أزمة النخب، وأزمة فعلية سريان العقد الاجتماعي المهيكل لعلاقة الحاكمين بالمحكومين عبر مؤسسات الدولة وهياكلها؛ وكلاهما عمودان لا يقوم في غيابهما هيكل السلطوية وضبط المؤسسات لغير روح الدستور وأخلاق القانون.
وإلا… كيف أقدم وزير الصحة، “الكفاءة” المستقدمة من مشتل السيد رئيس الحكومة، على تسهيل استفادة زميله المستثمر الاقتصادي القابع في مقر وزارة التعليم، من صفقات غير قانونية وغير أخلاقية، في واضحة النهار، وتحت شمس الدستور والقانون، والإعلام والمعارضة وتحت مجهر المجلس الأعلى للحسابات وكافة مستويات الرقابة المالية؟ وكيف دبر قبله زميله في الحزب وفي الذهنية صفقات اقتناء مصحات خاصة بعد أن استرق السمع في مجلس حكومي اعتزام حكومة عبد الإله بن كيران تحرير الرأسمال الطبي منذ أكثر من عشر سنوات؟ وكيف مرر ـ بإشراف زميله في الحزب الاستثماري الكبير ـ مقتضى يحرم خزينة الدولة من حقها الضريبي في صفقة بيعه شركاته في قطاع التأمين؟ وكيف ستفجِّر الصحافة نازلة التهرب الضريبي للسيد وزير العدل، وقصة تحويل أرض زراعية إلى تجزئة سكنية راقية لصالح وزيرة القطاع المعني؟ وكيف ستحوَّل أموال دعم الدراسات المخصصة لتطوير أداء حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى رصيد مكتب دراسات مستحدث لدراسة تحويل وجهة المال العام؟ والنماذج الكثيرة التي استشرت بشكل أصبح معه ليّ عنق القانون رياضة يومية، سافرة الأدوات واللوبيات، تمارسها لصالحها أو مُناوَلةً لنخب “الهشاشة الأخلاقية”، مُعضَّدةً بتحكم القرار السياسي في سريان مبدأ المحاسبة.
وإلا… كيف يُفسَّر ما شاهدناه في المقاطع التي وثقتها اللجنة المؤقتة بكاميراتها العالية الجودة، والتي لا أحد يمكن ـ غير رئيس اللجنة وأعضائها ـ أن يفسر أسباب تسجيل أشغال محكمة الأخلاقيات وحيثيات تسريبها؟ وهل علم الصحفي حميد المهداوي أن “محاكمته” مسجلة وموثقة من طرف لجنة “الأخلاقيات”؟ فقد تقمّص قضاة اللجنة المؤقتة وظيفة منفذي أحكام أكثر منهم باحثين ـ بنزاهة وتجرد ـ عن تطابق بين المخالفات المنسوبة للصحفي حميد المهداوي ومقتضيات “أخلاقيات” مهنة الصحافة التي يمارسونها. كما كشف ضعف استيعابهم لمقتضيات قانون “أخلاقيات” مهنتهم أنهم ـ كدأب نخب “الهشاشة الأخلاقية” ـ بصدد البحث عن تكييف للحكم الصادر مسبقاً مع دفتر “الأخلاقيات”، وعن “كلمة صغيرة” من لدن رئيس اللجنة المؤقتة كفيلة بتوريط السلطة القضائية في خطيئة كبيرة، لإخضاع الصحفي “المدان” لصحيفة أخلاقيات تُنتهك بأيديهم، وبلغتهم، وبإيحاءاتهم، وبتنمرهم، واحتقارهم لهيئات العدالة قضاةً ومحامين، وبغرابة تداولهم، وبحمولة اللغة التي يبدو أنها متداولة بقوة في سوق “قيمهم”.
ومن محاسن الصدف ـ هذه المرة ـ أنها، بالتزامن الغريب الذي نسجه القدر بين النازلتين، تضعنا أمام مشهد يشرح ما يحدث في مآدب “الكرام”، حيث تتكلف النخب المنتقاة بعناية فائقة بمحاصرة المبادئ الدستورية، ومحاصرة المقتضيات القانونية، وتفتيت عظم الأخلاق والقيم، لينتعش سوق صفقات التربح وصفقات التصفيات فوق رفات القانون والأخلاق والقيم؛ فتُنهش حقوق المتنافسين وتُدهس عظام المخالفين بأدوات الدهس الناعمة، فوق أكفان قوانين الصفقات العمومية ومراسيمها، وفي لجان التقرير والحسم وجنائز “التأديب والأخلاقيات”.
بحثتُ ـ بين “قضاة” صفقة الدواء، وبين قضاة لجنة “التأديب والأخلاقيات” ـ عن قاضي الجنة وقاضيي النار؛ عن الرجل الذي قضى بغير الحق فعلم ذاك، وعن القاضي الذي لا يعلم فأهلك حقوق الناس، وعن القاضي الذي قضى الحق. فرأيتني حائرة حول مفهوم الحق ومفهوم حقوق الناس نفسه في زمن ما بعد دستور 2011. فيبدو أن الذي يُظلم بيننا هو الحق نفسه، بعد أن استقوت فتاوى فصل “المصلحة الوطنية” عن الحق والعدل والشفافية والنزاهة، وفصل السلطة عن القيم، وفصل القانون عن الأخلاق.
بقلم الدكتورة حسناء أبو زيد
نائبة برلمانية سابقة عن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية

















Discussion about this post