ما تزال تصريحات عبد الإله بنكيرانفي مهرجان خطابي يوم فتح ماي، تسيل الكثير من المداد، وفذا السياق كتب الباحث الصحفي عبد الصمد بنعباد مقالا بعنوان بنكيران ومواجهة “الشر المطلق”.
أحيت كلمتا “الميكروبات” و”الحمار” أرضا يراد لها أن تتصحر سياسيا، وأشركت فئات مهمة من المغاربة في جدل “الخطأ” و”الصواب” في الكلمتين، ودفعت عددا معتبرا من ساكنة الفضاء الافتراضي إلى الاصطفاف مع القائل بنكيران ضد الذين تصدوا له.
هذا المعطى على أهميته، لا يجب أن يحجب عنا أن حزب العدالة والتنمية بدوره، عاش هذا النقاش وحرارته، حيث تباينت المواقف داخل الحزب بين مؤيد ومعارض، ورغم الطابع المتشنج لبعض التفاعلات، فإنها تتوج الحزب رائدا للنقاش السياسي في البلد.
ربما لا ينتبه أبناء العدالة والتنمية إلى الأهمية التي تعكسها طريقة تدبير خلافاتهم، وبراءتهم (الساذجة) في التعبير عنها على العموم وأمام الملأ، إن واحدا من اعتبارات التقدير التي يمنحها المجتمع للحزب يكمن في هذه الصورة التي تجعل المواطنين يرون أنفسهم يتشابهون مع المناضلين.
الاختلاف مع الأمين العام، ورفض فكرة مسؤول حزبي، والسخرية ـ حتى ـ من فكرة لأخ في الحزب.. هذه الأساليب في التعبير يجد فيها المغاربة أنفسهم، هذه شخصيتهم وطبيعتهم، يختلفون بصوت عال، يرفضون في العلن، ويغضبون في صخب، لكنهم سرعان ما تهدأ نفوسهم، ويسامحون ولا يحقدون ولا ينتقمون، لأنهم صادقون أو هكذا يعلنون.
يهدم مناضلو العدالة والتنمية صورة رتيبة عن الحزب لدى عموم الناس، حيث صمت القبور هو الأصل، وكل الصور تبدو جميلة، تطغى عليها “هوليود سمايل”، والعبارات عامرة بالاحترام والود، لكن عند كل استحقاق، يسمع الناس عن رفع اليد للتصويت، وعن الأطباق الطائرة، وقنابل الغاز.
المغربي كائن حذر، ولا يؤمن بالصور المصنعة، ولا يقبل الإنسان المنمط (المُقَوْلَبَ)، يبحث عن شبيهه، ذي الدماء الحارة، الذي لا يخفي مشاعره، ميال إلى الذي يعبر بحرارة عن قناعاته، لذلك يفرح الناس بهذا النقاش الحزبي، ويعظمون أهله.
هذه الجوانب مهمة جدا في بناء علاقة سليمة بين مناضلي الأحزاب وعموم المواطنين، وتفتح الباب لقراءة عبارتي “الميكروبات” و”الحمار”، لا من زاوية “التبرير” البعدي، اتكاء على “القبول” الشعبي، الذي يحلو للبعض وصفه ـ ظلما وعدوانا ـ بالشعبوية.
أخترت الباب الأخلاقي لمناقشة عبارتي بنكيران، ولعل أهم من يجب الاعتماد عليه في المعيرة الأخلاقية هو سيّدنا طه عبد الرحمن، فمن جهة يرد فيلسوف الأخلاق القول بأن العقل هو ميزة الإنسان، بل يعتبر العقل لدى البشر قرينا للإدراك عند الحيوان، ومن ثم لا ميزة هنا تفضل هذا على ذاك.
يؤسس أن طه في “سؤال الأخلاق” لقاعدة “الأخلاقية هي التي تجعل أفق الإنسان مختلفا عن أفق البهيمة”، ويضيف أن “الأخلاقية هي ما به يكون الإنسان إنسانا.. لذا ينبغي أن تتجلى الأخلاقية في كل فعل من الأفعال التي يأتيها الإنسان”.
لم يقف شيخنا طه هنا، بل زاد في مقالته “الشر المطلق ومسؤولية الفيلسوف”، تحديد طبيعة الشر المطلق الجوهرية، بعد استعراض “ضحايا” هذا الشر، وهي اختصارا (قتل الأطفال، قتل البراءة، قتل الفطرة، وقتل مستودع القيم).
إن “الشر المطلق” عند طه “ليس مجرد تأزيم للقيم التي بين أيدينا، بحيث يصح أن نقول: “إن الشر المطلق عبارة عن أزمة القيم”، ولا هو حتى قلْب القيم إلى أضدادها، بحيث يصح أن نقول: “إن الشر المطلق عبارة عن انقلاب القيم”، وإنما هو، على التعيين، “قتلُ القيم أو محوها بِما يُفقد الإنسان القدرة على تمييز الخير من الشر والحق من الباطل”، بحيث يصح أن نقول: “إن الشر المطلق عبارة عن فتنة القيم”.
ولإن كان هدف الشر المطلق “فتنة” الناس في العالم عن “القيم”، فإن “كلنا إسرائيل” يهدفون إلى “فتنة” الناس عن “قيم” التضامن مع “الضحايا” الفلسطينيين في المغرب.
“أقول إنه لا مسؤولية أنيطت بالإنسان أثقل، ولا ألزم، من مسؤولية التصدي للشر المطلق”، هكذا يحسم فيلسوف الأخلاق الجواب عن سؤال “كيف نتقي هذا الشر بـ”قوة”؟”.
يقسم طه المسؤوليات التي يوجبها التصدي للشر المطلق إلى مسؤوليتين عظيمتين، وهما: “المسؤولية عن الناس جميعا، أفرادا وجماعات” (من قتل نفسا)، و”المسؤولية عن القيم جميعا، ظاهرا وباطنا” (من آذى مسلما بغير حق، فكأنما هدم بيت الله).
ويوضح أن واجب التصدي للشر المطلق/فتنة القيم واجب على “الإنسانية جمعاء، لأنه يذهب بمواثيقها، ويهدد مصيرها؛ لذلك، ينبغي أن تُتخذ كل وسائل دفع هذا الشر على صعيد العالم بكلية مؤسساته، وتشترك فيه جميع الأمم بكل مقدَّراتها، وليس على صعيد المكان الذي وقع فيه أو الشعب الذي وقع عليه، لأن هذه المواثيق لا تتعلق بهم وحدهم، فضلا عن أن وسائل دفعه تتعدّى طاقتهم”.
ثم يضيف طه عبد الرحمان مسؤولية ثانية على المسلمين خاصة، “فلما كان الزمن الأخلاقي الراهن هو زمن الإسلام، بحكم خاتمية هذا الدين، فقد وقعت المسؤولية عن القيم في العالم، بالأصالة، على المسلمين، وبالتبَع، على غيرهم من الأمم الأخرى”.
إننا إزاء شر مطلق وفتنة قيم عالمية، نصيبنا فيه هو “كلنا إسرائيل”، وبالتالي فإن المسؤولية المركبة للمسلمين تجعل المدافعة واجبا عينيا لا كفائي، وأن حماية مستودع القيم، والفطرة، والبراءة، والطفولة، أولى واجبات المسلم، عوض حماية كرامة “الفتانين”.
هناك جانب آخر متعلق بـ”المسؤولية الوالدية التربوية”.. قد أعود له في مقال آخر إن شاء الله.
الكاتب عبد الصمد بنعباد
Discussion about this post