تأسس حي برج مولاي عمر بمكناس قبل حوالي مائة عام (سنة 1930). وتشهد الدراسات أن موقع هذا الحي “منزه عمر” له عمق تاريخي يرجع إلى الفترة الإسماعيلية أوج الحاضرة المكناسية. إن البرج الذي سُمّي عليه هذا الحي، والذي لا زال شامخا بالمنطقة إلى اليوم (الصورة)، ضارب في تاريخ مكناس.
و حسب جون فرانشي: “يعود تاريخ هذا المبنى ذي المظهر المهيب والأثري إلى عهد السلطان مولاي إسماعيل (المعاصر للملك لويس الرابع عشر)، وكان آنذاك مِلكًا لوزيره ويستخدم كمنتزه” (Franchi, 1960, p. 260). وبالإضافة إلى قيمته التاريخية يحظى هذا الموقع برونقه الطبيعي ورومنسيته الملهمة؛ إذ “يوفر إطلالة رائعة على كتلة زرهون الجبلية التي تظهر في الأفق البعيد غرباً، وسهل دخييسة الشاسع الذي يمتد شرقاً. ” (Franchi, 1960, p. 260).
إرث كولونيالي يحتاج التفاتة
للأسف لم تأتي ولادة حي برج مولاي عمر طبيعية! ففي مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي تم تجميع كل أشاكل السكن غير الصحي للعمال، المتواجدة بالمدينة الكولونيالية (حمرية) في حي واحد هو “برج مولاي عمر”. وذلك بغرض تيسير المراقبة الصحية، حماية للمستوطنين بالدرجة الأولى.
بعدها شهد الحي ميلاد أول مؤسسة تعليمية سنة 1947، كانت حينها تضم خمسة فصول وتحتضن 240 تلميذا، وبعدها بسنة تم إنشاء مستوصف ومركز للبريد. فبدأ الحي في التشكل المدني، وعرف إقبالا سكنيا وتزايدا سكانيا مضطردا، في ظل عمليات الاستيطان الزراعي المُحرّكة لهجرة القبائل المغربية. وهكذا ارتفع عدد سكان حي البرج من 700 نسمة سنة 1930 إلى 13500 مع نهاية الاستعمار.
واليوم تشرف ساكنة الحي على 50 ألف نسمة. وبهذه الكثافة السكانية ذات النزعة الشبابية شَكّل حي برج مولاي عمر، ولا يزال، محرّكا مهما لاقتصاد المدينة.
فمنذ النشأة الكولونيالية، شكّلت ساكنة البرج المُحرك البشري الأساس للحي الصناعي بالمدينة الجديدة (حمرية)، حيث اشتغلت 50% من اليد العاملة بالحي في القطاع الصناعي سنة 1952م.
بيد أن هذه الفخامة الطبيعية والمكانة التاريخية والكثافة الديموغرافية والحيوية الاقتصادية لم تشفع لهذا الحي، الذي ظل مهمشا و”عبئا” على المُدبّر المحلي منذ ولادته “القيصرية” الأولى!!
عقبات تنموية تسائل سلطات الإقليم !!
اليوم، وبعد مرور قرن على النشأة الأولى، وسبعة عقود على الاستقلال، وأزيد من عقد على انعتاق الحي من رقبة الصفيح، لا زالت وضعيته التنموية تعيش ضبابية وغموضا بيّنا. ولن نجازف إن قُلنا أن الحي يعاني تهميشا إراديا، حتى أنه بات يعرف نكوصا وتقهقرا. ويظهر ذلك جليا ليس فقط من خلال الملاحظة الميدانية، ولا فقط من خلال الدراسات الأكاديمية (التي كشفت إحداها أن 18% من سكان حي البرج تقل مساحة منازلهم عن 50 مترا، و45% منهم تتراوح مساحتها ما بين 50 و70 مترا.
فضلا عن ارتفاع ظاهرة التساكن: 37% من المنازل تضم أسرتين 35% تضم ثلاثة و7% تضم أربع أسر، في حين لا تتعدى المساكن المستقلة بهذه الأحياء 8%)، بل يظهر تهميش حي البرج أساسا من خلال القراءة النسقية للتدخلات العمومية الخاصة به. لقد كان آخر مشروع استفاد منه الحي هو برنامج التأهيل الحضري المندمج لمدينة مكناس سنة 2016- 2018م، أي قبل عشر سنوات من اليوم. حيث، حظي بتهيئة بعض شوارعه المتدهورة في إطار الشطر الثاني من المشروع.
الملاحظ أن هذا المشروع نفسه تعامل مع حي البرج بتمييز سلبي واضح. فإذا كانت شوارع حمرية -مثلا- وواجهاتها استفادت من تهيئة الشوارع والأرصفة والساحات والمدارات، وتم تعزيز ذلك بأثاث حضري مهم (كراسي، مناطق خضراء وتشجير، قمامات، إعادة تأهيل الإضاءة …) فإن تهيئة منطقة البرج اقتصرت على إعادة تأهيل أرضية الشوارع فقط.
منذئذ، وإلى اليوم، فبدل أن يستفيد الحي من برامج خاصة تعالج تأخره وتهميشه، نجد أن السلطة المحلية، كما الهيئة المُنتخبة (بالتبع)، تصرّ على اعتبار الحي مجرّد هامش لا “يرقى” إلى الاهتمام. وهو ما يتعارض تماما مع الرؤية الملكية في تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، والتي كان آخر مُخرجاتها ما 1أسماه جلالته بمقاربة “التنمية الترابية المُندمجة”. ومن المؤكّد أن إكراهات الحي، كأي حي شعبي، كلّما تأخرت تعقّدت.
جماعة مكناس .. تحركات محتشمة
لقد شرعت الجماعة مؤخرا في برمجة الأحياء التي ستستفيد من إنارة المصابيح العاطلة (وهو مشروع بسيط ومطلب ملح)، لم تتم برمجة حي برج مولاي عمر في كل المراحل المُعلن عنها إلى الآن. وقبل ذلك اتجهت السلطة مؤخرا إلى إقبار الحديقة الوحيدة الموجودة بالحي، عبر تجميع كل الباعة بها وتحويلها إلى سوق عشوائي، دون أي استشارة للساكنة، التي وُضعت أمام أمر واقع مُرّ.
وهي نفس الخطوة التي تعتزم عليها السلطة مع حديقة عين الشبيك الشرقية (قرب السكة)، وأيضا في حي عين سلوكي. والغريب أن هذه الأحياء جميعا لها أسواقها البلدية المُهيكَلَة. إن منطقة البرج وحدها تضم ثلاثة أسواق مهجورة لم تفلح السلطة في إقناع أهلها بالعودة إليها رغم تخفيض واجب الكراء الذي أقره المجلس البلدي في آخر دورة.
ومن جهة أخرى فقد شهدت منطقة عين الشبيك ببرج مولاي عمر تفويت ملاعبها المجانية المُهيئة في إطار التنمية البشرية إلى مشروع رياضي ربحي يفرض أداء على الخدمة، الذين لم يعد لهم أي بديل مجاني.
ومن ناحية ثانية لم يعد البرج، بساكنته المرتفعة والشابة، يتوفر على دار شباب، بعد إغلاق دار الشباب “حمان الفطواكي” منذ سنوات. فكيف سنتمكن من إنتاج مواطن سوي في منطقة تغيب فيها أدوات التربية والتأطير؟
وماذا ننتظر من ساكنة تفتقد لأهم شروط الحياة الجماعية، وهم يرقبون غيرهم من الأحياء والفئات المجاورة تنعم وتتقدّم؟ وهنا تؤكّد نظرية الحرمان النسبي (Relative Deprivation Theory) أن رضا الناس وسخطهم لا يرتبط بالضرورة بوضعهم المطلق بل بمقرانتهم بفئات مرجعية أخرى.
أجوبة سوسيولوجية لظاهرة الإقصاء !!
لقد أكّدت أبحاث سوسيولوجية أن للإقصاء دور مهم في تفشي العنف، وأن الترابط بين الجريمة والتحضر أمر طبيعي، بالنظر إلى الأشكال الجديدة للحياة الاجتماعية داخل المدينة، والتي تقوم، حسب السوسيولوجي لويس ويرث، على ثلاثة خصائص: حجم المدينة، الكثافة السكانية، واللاتجانس بين سكانها” (هشامي، 2022، الصفحات 87-88).
وفي دراسة سوسيولوجية شملت نزلاء مركز حماية الطفولة بمكناس، وكذا من سبَق وألقي عليه القبض من طرف مؤسسة الشرطة في كل من أحياء برج مولاي عمر وعين الشبيك (مجال دراستنا) ومرجان 3، خلصت أن ظروف السكن بهذه الأحياء ساهمت في تغذية سلوك الانحراف والإجرام.
لقد أكدّت الدراسة عبر مقابلات بتفصيل وأمثلة ملموسة أن “ساكنة هذه الأحياء، موضوع الدراسة، لها من الظروف ما يؤهلها للمرور إلى الفعل الإجرامي والمنحرف… -من قبيل- الانخراط في العصابات التي تتمحور معظم أنشطتها حول السرقة بأنواعها، المخدرات، الدعارة، اعتراض السبيل “الكريساج”، الحروب بين العصابات إلخ” (الزهيدي و الوالي، 2022، صفحة 71).
بؤرة للجريمة في مكناس
لكل ذلك نؤكّد أن منسوب العنف والانحراف بهذه الأحياء هو نتيجة لظروف سكنية وسياسات إسكانية وتدابير مجالية. كما تبيّن أن هذه الساكنة أحوج ما تكون إلى مجال عمومي متسع، لارتفاع كثافتها السكانية، ولأن عناصر هذه المجال تشكّل بديلا حيويا وضروريا عن ضيق البيوت والمنازل.
إن ضيق المنازل أو تقاسمها مع عدة أسر، يفرض على الذكور مغادرته إلى الخارج، باعتبار أن المنزل، في الثقافة المغربية حسب الباحثة السوسيولوجية بوشنين، ملك أنثوي وأن بقاء الذكور به منقصة لهم. نعم، هكذا ترى بوشانين: “ففي الأحياء الشعبية، تكون المساحات المحاذية للمساكن مثل الطرق المسدودة، والأزقة السكنية، أنثوية، حيث الرجل البالغ عمومًا ليس له مكان هناك” (Navez-Bouchanine, Espaces publics des villes marocaines, 1992, p. 189).
وهذا كله يفرض حاجة أكبر إلى فضاءات عمومية واسعة بمثل هذه الأحياء الشعبية. وأن إقبار هذه المناطق يُعدّ إخلالا بظروف التنشئة والدمج الاجتماعي لساكنة مستمرة في التجدد.
نختم بمقولة وتعليق؛ لقد صدح لوفيفر (Henri Lefebvre) في كتابه “إنتاج المجال” (The Production of Space) “أن المجال ليس مجرّد خلفية محايدة وإنما هو نتاج اجتماعي وسياسي يتم تشكيله من قبل القوى المهيمنة، مما يؤدي إلى تهميش بعض الأفراد والمجموعات”.
وتعليقا على ذلك أجدني في غاية الأسى والأسف على نخبة هذا الحي، وأساسا المُتموقعون منهم في دوالب القرار والفعل المحلي، على شدة تفريطهم ونكرانهم لهذا الحي. ولا يخفى أن دعوة أهل الحي ليس لحمية أو عصبية مقيتة، ولكن لإيمان راسخ بأن تنمية أي تراب لا تتم إلا بالانطلاق منه، بمراعاة خصوصياته وامتيازاته وتحدياته، وأهل الحي أدرى وأعلم بكل ذلك.
كما أن تنمية أي مدينة، لن تتحقق إلا بتنمية كل قطاعاتها الحضرية ومختلف أحيائها الترابية. فالمدينة جامعة نعم -كما الوطن- لكن لكل حي خصوصيته ومداخل تنميته، وللبرج أهله المحيطون به، كما أن له ضريبة تهميشه ستؤديها كل المدينة.




















Discussion about this post