اقتصاد الترفيه… حين تتحول مدن الملاهي إلى محرك للتنمية
قد تبدو مدن الترفيه، في الوعي العام، نشاطًا ثانويًا مرتبطًا بالمتعة والاستهلاك العابر، غير أن التجارب العالمية الكبرى تؤكد عكس ذلك تمامًا. فالترفيه، في جوهره، امتداد مباشر للاقتصاد، وقطاع استراتيجي متكامل قادر على خلق الثروة، وتحفيز الاستثمار، وبناء مدن واقتصادات جهوية كاملة.
يوسف سعود ومن خلال زياراته المتكررة لعدد من أكبر مدن الملاهي في العالم، من بينها ديزني باريس، وديزني كاليفورنيا، وديزني أورلاندو بولاية فلوريدا، يوضح حجم الفجوة بين من ينظر إلى الترفيه كترف، ومن يعتبره رافعة تنموية. فديزني فلوريدا، حسب قوله، ليست مجرد مدينة ألعاب، بل إنها منظومة اقتصادية ضخمة تستقطب نحو 50 مليون زائر سنويًا، يعادل حجم نشاطها الاقتصادي اقتصاد جهة كاملة، بحجم جهة الدار البيضاء–سطات.
يضيف سعود أن صناعة مدن الملاهي في الولايات المتحدة ليست قطاعًا هامشيًا، بل صناعة قائمة بذاتها، تُشغّل مئات الآلاف، وتستقطب استثمارات ضخمة، وتخلق سلاسل قيمة تشمل السياحة، النقل، الفندقة، التسويق، والصناعات الإبداعية. وليس من قبيل الصدفة أن تصل أعداد زوار مدن الملاهي في أمريكا الشمالية إلى حوالي 150 مليون زائر سنويًا، مقابل 60 مليونًا في أوروبا، في حين لا يتجاوز الرقم في إفريقيا 5 ملايين زائر، بسبب ضعف العرض وغياب الرؤية الاستثمارية.
لكن قصة الترفيه كاقتصاد حسب سعود لا تقتصر على ديزني وحدها. فمدينة هيرشي الأمريكية تقدم نموذجًا أكثر عمقًا، لأنها تربط الترفيه بالاستثمار في الإنسان قبل العمران. تعود قصتها إلى رجل يُدعى ميلتون هيرشي، وُلد في وسط زراعي متواضع، وغادر المدرسة مبكرًا، وجرّب مهنًا عديدة قبل أن يقرر دخول عالم صناعة الحلويات.
حيث اقترض هيرشي مبلغًا بسيطًا لا يتجاوز 800 دولار، وأطلق مشروعًا صغيرًا لبيع الكراميل. فشل مرة، ثم أخرى، لكنه واصل المحاولة. ومع الوقت، نجح بفضل منتج يتميز بمدة صلاحية تسمح بالتصدير، ما مكنه من بناء شركة صغيرة سرعان ما تطورت. ورغم النجاح، اتخذ قرارًا جريئًا ببيع شركته والاستثمار في مشروع جديد عالي المخاطر: الشوكولاتة.
لم يكن رهان هيرشي تقنيًا فقط، بل اجتماعيًا أيضًا. فقد آمن بإمكانية إخراج الشوكولاتة من دائرة النخبة إلى عموم الناس، عبر تسعير معقول وإنتاج واسع. والأهم من ذلك، أنه أدرك مبكرًا أن قوة الإنتاج لا تنفصل عن الرأسمال البشري. لذلك، حين أسس مصنعه في منطقة معزولة، لم يبنِ جدرانًا وآلات فقط، بل خلق إيكوسيستم متكامل: مدارس، مساكن، كنائس، مرافق ترفيه، ومدينة ملاهي، لتنشأ مدينة كاملة تحمل اسمه: هيرشي.
تحولت الشركة لاحقًا إلى إمبراطورية عالمية لصناعة الشوكولاتة، ووصلت منتجاتها إلى مختلف أنحاء العالم، من بينها علامات معروفة في السوق المغربية. كما أصبحت مدينة الملاهي التابعة لها من بين الأكبر عالميًا، تُفتح للعموم في أيام محددة، فيما تبقى باقي الفترات مخصصة للعاملين، في رسالة واضحة مفادها أن الاستثمار في الإنسان ليس شعارًا، بل سياسة إنتاج.
جزء كبير من ثروة ميلتون هيرشي خُصص للتعليم، عبر مؤسسات تعليمية بهيكلة إدارية تحمي استدامتها وحقوق المستفيدين. وهنا يطرح سعود سؤالا جوهريا: ماذا لو رُفض طلب القرض الأول؟ كم من الإمبراطوريات الاقتصادية لم ترَ النور لأن موظفًا ضيق الأفق، أو مسؤولًا بلا رؤية، قرر قتل فكرة خارج الصندوق؟ حسب رأيه.
إن كثيرًا من المشاريع الواعدة تصطدم اليوم بعقليات تشتغل بمنطق الساعة الثالثة بعد الزوال، أو بمنظومة ريع تحرم الشباب من تحويل أفكارهم إلى كيانات اقتصادية كبرى. وفي المقابل، تنهار رؤوس أموال ضخمة بسبب الجشع، وغياب الاستثمار في الرأسمال البشري، وسوء ظروف العمل.
لقد قام ميلتون هيرشي، ببساطة، بـدمقرطة الشوكولاتة، وخلق معها واحدة من أكبر مدن الملاهي في العالم. والدرس واضح: الترفيه ليس لعبًا، بل اقتصادا، والتنمية لا تبدأ بالإسمنت، بل بالإنسان!!
بقلم الصحفي يوسف سعود بتصرف
















Discussion about this post