إيكوبريس توفيق اليعلاوي –
شكلت التقارير الصادرة، خلال السنوات الأخيرة عن المؤسسات الدولية المهتمة بمجال التنمية البشرية، مصدر إزعاج حقيقي للحكومة المغربية، إذ تصنف هذه التقارير المغرب في مراتب جد متدنية، وتشير إلى اختلالات يتفق عليها الخطاب الملكي السامي والتقارير المحلية والدولية، ولا تعكس بالمرة، حقيقة المجهودات الكبيرة التي تبذلها المملكة، خاصة بعد وضع مخططات كبرى تروم الإرتقاء بجودة مؤشرات التنمية البشرية، كما هو متعارف عليها دوليا.
هذه الإختلالات جعلت العاهل المغربي الملك محمد السادس ينتقذ في أحد خطاباته الواقع الاجتماعي في بلاده، عندما قال إن المغرب يشهد “مفارقات صارخة من الصعب فهمها”، وإن “برامج التنمية البشرية والترابية، التي لها تأثير مباشر على تحسين ظروف عيش المواطنين، لا تشرفنا، وتبقى دون طموحنا”، رغم تأكيده أن البلاد تشهد تطورا مستمرا، ودعوته المتواصلة أعزه الله وحفظه، إلى الحكومة وجميع الفاعلين المعنيين، للقيام بإعادة هيكلة شاملة وعميقة، للبرامج والسياسات الوطنية، في مجال الدعم والحماية الاجتماعية.
ويبدو أن بعض الهيئات الحقوقية والمؤسسات الوطنية نفسها، خاصة الدستورية منها، بدأت تسير في نفس المسار، مشيرة إلى أن المغرب مازال يعيش عجزا حقيقيا في تحقيق تنمية بشرية حقيقية، رغم الميزانيات غير المسبوقة التي خصصتها المملكة لتنفيذ بعض البرامج التنموية.
وفي هذا السياق، أصدر المنتدى الوطني للحريات والكرامة وحقوق الإنسان، تقريرا مفصلا يتعلق بفشل تنزيل مخططات التنمية، و أن “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” التي تم إرساؤها سنة 2005، تعتبر المخطط الأبرز من أجل محاربة الفقر والهشاشة، وكذا الإقصاء الاجتماعي في المغرب، بعد مرور أكثر من عقد من الزمن على انطلاقتها، حيث يبدو أن النتائج لم تكن مقنعة، ولم ترق لا إلى مستوى تطلعات الفئات الهشة، بالرغم من الميزانية الضخمة التي تم تخصيصها على مدى سنوات عديدة.
وفي هذا الصدد، أشار المنتدى الحقوقي، إلى أن برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، جاء نتاجا لرؤية مولوية واعدة، نادى به ملك البلاد، بناء على الملاحظات الميدانية وخلاصات تقرير الخمسينية الذي يروم في إجرائه وفلسفته، إلى إعادة توجيه وتحسين السياسات العمومية، وذلك بخلق ديمقراطية مجالية مستدامة تشمل جميع الفئات والطبقات الاجتماعية.
وأبرز المنتدى، دورا فعالا ومسؤولا من خلال تتبعه الدائم للشأن المحلي والوطني، على وجه الخصوص، وتطرقه إلى شريط حواري تم نشره على صفحات الوسائط الإجتماعية، بتاريخ 21 يوليوز 2023، والذي تمحور في مجمله حول فشل برنامج المبادرة الوطنية بمقاطعة سيدي مومن، التي تعتبر من الأحياء الأكثر هشاشة وتهميشا على المستوى الوطني، في ضرب صارخ للرؤية التنموية التي نادى بها صاحب الجلالة الذي أولى عنايته المولوية، إلى خلق نموذج تنموي فعلي يهدف إلى تحقيق التوازن، وسد الفجوات فيما يخص المناطق التي لم تستفد من التنمية، سعيا للتخفيف من حدة الفقر والهشاشة، كما يمكنه أن يعطي الأمل المنشود للمواطنين، ويجعلهم مساهمين عمليين في التنمية.
وحسب الهيئة الحقوقية، فإن جل المتدخلين، أكدوا على أن برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بسيدي مومن، لايزال يعاني نوعا من النكوصية والانكسار، اعتبارا أنه لم يكن له الأثر الإيجابي على حياة المواطنين، بل تم توجيهه في غير ما أُعِدَّ من أجله.
ومن خلال قراءته وتتبعه لردود المستَجْوبين، أقر بملامسته لتعابير اتسمت بعضها بالحدة، وأحيانا بالشراسة في توجيه أصابع الاتهام، بشكل أساسي ومباشر، إلى اللجنة الإقليمية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، في شخص عامل عمالة مقاطعة سيدي البرنوصي والسلطات المحلية، كما لم يسلم من الإنتقاذ اللاذع، الفاعل السياسي جراء تقاعسه عن أداء واجبه، وفق ما تعهد به أمام ساكنة المنطقة.
كما عرج تقرير الهيئة، على عنصر مهم غاب ذكره في هذا الحوار، والمتمثل في جمعيات المجتمع المدني بالمنطقة، باعتبارها فاعلا محوريا في برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، حيث لم يتطرق المتدخلون، ولو من قبيل التلميح، في مدى أهليتها ومساهمتها في إنجاح أو فشل المشاريع التي تكفلت بإنجازها، وكذا الفئات التي استهدفتها، وقد كان من المفروض أن تكون هي الأخرى في فوهة البركان، باعتبارها محط جدل واسع بين صفوف المواطنين.
ولهذا السبب، ارتأى المنتدى الوطني للحريات والكرامة وحقوق الانسان البحث والتقصي لصبر أغوار هذا الملف، وإبداء رأيه في طريقة انخراط العديد من الجمعيات التي تكفلت بإنجاز مشاريع تنموية بسيدي مومن، وإن كانت على علتها، وتسليط الضوء على مدى أحقية الفئات المستهدفة من هذا البرنامج.
ووفق تقرير نفس الهيئة الحقوقية، فقد تم إشراك جمعيات المجتمع المدني، من أجل سد ثغرات التنمية، وذلك عبر منحها تمويلات، هدفها مساعدة الفئات المعوزة بمشاريع مدرة للدخل تمكنهم من تخطي عتبة الفقر والمشاركة في الدورة الاقتصادية والرفع من مستواهم المعيشي، إلا أن هذه المشاريع باءت جلها بالفشل، إذ لاتزال منطقة سيدي مومن تعيش على وقع التباين المجالي والطبقي، الناجم عن حرمان العديد من الأحياء التي لم يشملها برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، رغم تصنيفها ضمن فئة الهشاشة.
مما يفيد أن العديد من هذه الجمعيات قد تلقت تمويلات لمشاريع، اعتبرت ممْنوحة، الشيء الذي جعلها خاضعة لبوصلة التوجيه، ومسطرة التحكم التي لازالت تمارسها سلطة الوصاية، مستعينة بخدمات الفاعل السياسي، في شخص اللجنة المحلية التي لعبت، هي الأخرى، دورا كبيرا في تسهيل وتسخير خدماتها لجمعيات تم انتقائها بعناية ونيات مُبيتة، حتى صنفت معظم المشاريع التي خرجت للوجود، بمثابة ريع، بعدما زاغت عن مسارها الطبيعي المعمول به.
وبذلك أصبح برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية عبارة عن تجارة مُربحة غير خاضعة لمساطر الإستفادة والإستحقاق، حيث لم يحترم فيه مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين الجمعيات، ولم يُبنى على أساس التشخيص والمقاربة التشاركية، التي تعتبر من أهم اللبنات المساهمة في نجاحه.
وأفاد التقرير الحقوقي أيضا، أن مشاريع الأسواق النموذجية، موضوع جل المداخلات السابقة، والتي لا تزال العديد منها متعثرة أو خارج الخدمة رغم جاهزيتها، وأخرى رأت النور، لكنها لا تزال حتى اليوم مثار نزاع حول أحقية المستفيدين منها، بلغت حد اللجوء للقضاء.
وأضاف التقرير، أن العديد من الشبهات تحوم حول هذه المشاريع، لترتسم كعلامة استفهام منهكة وجارحة في صميم انتظارات المواطنين، بعدما اعتقدوا بأن هذا الترياق سيلعب دورا فعالا في القضاء على ظاهرة الباعة الجائلة، التي تعد من المعيقات الكبرى لمسلسل التنمية بسيدي مومن، بل بديلا للتخلص من أبرز النقط السوداء التي تعاني منها هذه المنطقة، لما يترتب عنها من آثار سلبية وما يصاحبها من انحرافات، بالإضافة إلى اختناق أهم ممرات الأحياء، وتشويه معالمها جراء الاحتلال القسري للملك العمومي وواجهات المنازل، ناهيك عن إرباك حركة السير والجولان التي تعاني منها كبريات الشوارع.
كما تم التأكيد حسب الهيئة، على أن العديد من هذه الأسواق لم تخل من خروقات، طالت ظروف تنزيلها كحلول ترقيعيه، ولم تستجب حتى اليوم للتطلعات المنتظرة، وتتجسد أهم هذه المشاكل والخروقات فيما يلي:
• تسوية العقار، حيت تم إنشاء بنايات تجارية دون سلك المساطر المعمول بها في تفويت الأراضي التابعة للأملاك المخزنية أو الجماعية.
• إنشاء بنايات في غياب دفاتر الورش، وأذونات التسليم، بل دون الحصول على تراخيص وتصاميم مصادق عليها من طرف المصالح المعنية.
• سوء الحكامة المتمثل في غياب مراقبة وتتبع المشاريع من طرف السلطات المعنية، ناهيك عن الغموض الذي يلف مصداقية التقارير التي أنجزت والتي تهم على وجه الخصوص، دراسة ملفات الجمعيات المستفيدة من أموال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
• غياب المتابعة والرقابة العينية للأسواق من طرف لجنة التعمير، مما أفضي الى إحداث تشوهات وتغييرات في الطوابق ومعالم المحلات التجارية.
• بطلان صفة التعاقد بين الجمعية والعديد من المستفيدين من محلات تجارية، الذين يدفعون مبالغ أحيانا باهظة وغير محددة، علما أن هذه المشاريع ليست ذات أهداف ربحية.
• استمرار إبرام عقود بيع وتفويت، بين الجمعيات والمستفيدين، في ظل فك الارتباط بين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وإحدى الجمعيات الحاملة لمشروع سوق نموذجي، مما يعد خرقا سافرا لقرار الفسخ العاملي رقم 184 الصادر بتاريخ 18/09/2015.
• الحصول على عدادات فردية ومشتركة للتزويد بالماء والكهرباء في ظروف غامضة، ودون سلك المساطر الإدارية التي تفرضها شركة ليدك للولوج إلى هذه الخدمات.
• تفويت عدة محلات عن طريق التعاقد من الباطن، أو تنازلات لفائدة بعض المستفيدين لا يصنفون ضمن الفئات الهشة، ولا يندرجون ضمن لوائح الفئات المستهدفة ببرنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي أدلت بها الجمعيات إلى السلطات المعنية.
• تفويت عدة محلات لفائدة مستفيد واحد بتعاقد مباشر مع الجمعية.
وبالنظر لهذه الأسباب، وغيرها التي أدت إلى فشل العديد من المشاريع، شدد المنتدى الحقوقي على الوقوف مليا لطرح السؤال، من المسؤول عن فشل برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بسيدي مومن؟، حتى نتمكن من ملامسة غياب الإلتزام في التعاطي مع أهداف هذا الورش الملكي، الذي طرأ تغيير ملموس في أهدافه وظروف تنزيله من طرف العديد من المتدخلين، بدءا بقبول مشاريع تفتقر لدراسات تقنية تحدد غاياتها والجدوى منها، ناهيك عن غياب الشفافية في تمويلها وتتبع إنجازها وكذا طريقة اختيار الجمعيات التي اعتبرت غير مؤهلة، وأخرى لا تملك في رصيدها وأقصى منجزاتها سوى الإشراف على برامج جد محدودة في توزيع مساعدات اجتماعية، وتنظيم أنشطة موسمية… تم الرهان عليها للقفز على مشاريع تفوق بكثير قدرتها وكفاءة أعضائها.
واعتبرت الهيئة، أن برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، جاء بغاية النهوض بالرأسمال البشري، وذلك بتوجيه العناية للفئات الهشة التي تعاني من الإقصاء، عن طريق خلق جيل جديد من المبادرات المدرة للدخل، والمحدثة لفرص شغل والتشغيل الذاتي، فضلا عن تدارك الخصاص الحاد على مستوى البنية التحتية، والخدمات الأساسية بالمنطقة.
لذلك، فإن المنتدى الوطني للحريات والكرامة وحقوق الإنسان، يطالب الجهات الرقابية المعنية، في شخص السيد وزير الداخلية، إيفاد لجنة قصد:
• افتحاص نظام المراقبة الداخلية الذي اعتمدته مصالح الشؤون الاجتماعية التابعة للجنة الإقليمية في تعاملها مع المشاريع المنجزة، والمتعثرة، أو تلك التي لا تزال في طور الإنجاز من طرف الجمعيات مع التدقيق في صدقية حساباتها.
• ضبط القوائم والبيانات فيما يتعلق باحترام عملية انتقاء المشاريع، مع ضبط الجوانب المتعلقة بإنجازها وتسييرها وديمومتها.
• تقييم المشاريع والوقوف عن مدى استغلالها، واستفادة الفئات الموجهة إليها.
• التركيز على المشاريع ذات البعد الاجتماعي خصوصا التي تهدف إلى محاربة الفقر والهشاشة، مع قياس قدرات الجمعيات الشريكة في ضمان استمراريتها.
• الوقوف على أسباب الاختلالات التي شابت المشاريع المتعثرة مع إصدار توصيات من أجل تفويتها.
• تحديد المسؤوليات فيما يخص المتلاعبين بمالية المبادرة، مع الاحتفاظ بحق تحريك مسطرة المتابعة القضائية.
• تخصيص جلسات استماع حول طريقة انتقاء المشاريع من طرف اللجنة المحلية والإقليمية، علما أن بعض الجمعيات تم إقصائها من برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، في ظروف غامضة وغير واضحة، رغم اقتراحها لمشاريع ذات جدوى وقابلة للتنفيذ.
• التحري في ظروف التوقيف المفاجئ لبعض المشاريع، الممولة من طرف المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، من طرف اللجنة الاقليمية دون تفسير واضح، ولازال البث في مصيرها وهدر ماليتها مجهولا لحدود اليوم.
Discussion about this post