من الجهوية المتقدمة إلى المركزية الموسعة
الجيل الجديد من برامج التنمية…يعيد الجيل القديم للتحكم
رغم مرور أكثر من عقد على إقرار دستور 2011 وما حمله من وعود بتفعيل الجهوية المتقدمة، ما زال المغرب يعيش مفارقة حادة بين الخطاب والممارسة. فعلى الورق، يبدو أن البلاد قطعت أشواطًا معتبرة في بناء جهوية متقدمة، ما بعد مكتسبات دستور 2011، من مجالس منتخبة، وقوانين تنظيمية، برامج جهوية للتنمية، وآليات للتعاقد بين الدولة والجهات… لكن في الواقع، ما تزال الجهة والمجالس المنتخبة موجودة كمؤسسة، وغائبة كسلطة، تملك (الشرعية الانتخابية)، لكنها لا تملك القرار الفعلي.
ففي الممارسة اليومية، نجد أن أغلب المشاريع الكبرى، من التهيئة الحضرية، وإعادة الإسكان، وتدبير المجال، تُدار من فوق، وتُقرَّر وفق منطق مركزي يُغلّف نفسه بلغة التنمية، وأزمات نزع الملكية التي شهدتها المدن الكبرى خير دليل حيث تم تبرير القرارات بأن الدور آلية للسقوط، بينما المقصد الحقيقي غالبًا هو إعادة هندسة المجال بما يخدم مصالح استثمارية كبرى، دون إشراك فعلي للسكان أو ممثليهم.
بهذا تتحول التنمية من أداة للتحرر والتمكين إلى أداة ضبط اجتماعي، تُعيد إنتاج نفس منطق التحكم ولكن بوسائل أكثر نعومة، وتتحول الجهوية من مشروع لتوزيع السلطة إلى واجهة لتجميل مركزية جديدة تُدار باسم النجاعة، لكنها تُقصي جوهر الديمقراطية الترابية التي تتجلى في المشاركة والمساءلة.
لقد نجحت وزارة الداخلية خلال العقدين الأخيرين في إعادة تأهيل خطابها لتبدو كفاعل تنموي، غير أن جوهر دورها بقي أمنيًا أكثر مما هو تنموي.
فالبرامج التي أدارتها، وعلى رأسها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، كشفت أن المقاربة التنموية التي تتبناها الدولة لا تهدف إلى تحرير الإنسان والمجال بقدر ما تسعى إلى تسكين التوترات الاجتماعية والحفاظ على الاستقرار بمنطق تدبيري لا تحرري، وهنا تتجلى المفارقة الكبرى، فبدل أن تتحول الجهوية إلى فضاء للقرار المحلي الحر، أصبحت أداة لتصريف القرار المركزي في المجال الترابي، وبدل أن تكون الجهة سلطة، أصبحت وسيطًا إداريًا بين المركز والمجتمع.
إن الدولة الفعّالة لا تُقاس فقط بقدرتها على الإنجاز، بل بقدرتها على بناء الثقة وتقاسم القرار، والجهوية الحقيقية ليست نقلًا ميكانيكيًا للاختصاصات، بل بناء ثقافة جديدة في الحكم، قوامها الثقة في الفاعل المحلي والمواطن، فمن دون هذه الثقة، ستظل الجهوية مجرد إدارة موسعة تُنفذ سياسات صيغت سلفًا في المركز، لا سلطة قادرة على صناعة قرار محلي مستقل.
المغرب اليوم أمام لحظة مفصلية:
إما أن يواصل السير في طريق فعالية مؤسسة الوالي أو العامل التي تنتج قرارات أسرع ولكن أقل شرعية، أو أن يختار مسار الديمقراطية الترابية التي تُعيد المعنى للمشاركة وتربط التنمية بالمواطنة.
فالمغرب الصاعد لا يمكن أن يُبنى بنصف دولة: مركز قوي ومجالات ضعيفة، ولا يمكن للجهوية أن تنجح ما دامت أدواتها من المال والمجال والقرار محتكرة في يد وزارة واحدة.
والفعالية الحقيقية لا تُختزل في الوصاية، بل تُبنى على الثقة، والتنمية المندمجة لا تتحقق بدون ديمقراطية محلية حقيقية، والمركز القوي لا يستدام إلا بجهات قوية تشاركه القرار لا تتبعه.
بقلم الباحث في الحركات الاجتماعية مرتضى الأندلسي














Discussion about this post