عبور القاصرين المغاربة إلى سبتة يسائل النموذج التنموي في مجالي التعليم والتشغيل
يتواصل توافد القاصرين المغاربة من مختلف المدن المغربية إلى مدينة الفنيدق، توقا إلى عبور السياج الحدودي الفاصل عن سبتة المحتلة، على الرغم من المجهودات الأمنية المبذولة من أجل منع تسربهم، واحتواء هذا الوضع الذي أصبح مصدر قلق كبير للمغرب وجارته إسبانيا على حد سواء.
ولعل المقاربة الأمنية وحدها ليست كافية لحلحلة هذه الظاهرة الاجتماعية والاقتصادية المتنامية، بل إنها تحتاج مقاربات أخرى تسندها، وتنطلق من مساءلة النموذج التنموي في مجالات التعليم، والصحة، والتكوين، والتشغيل على وجه العموم، وتتبعِ أثر المشاريع المنجزة في الفنيدق على الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للساكنة بوجه خاص.
جذور الظاهرة
انفجرت ظاهرة التقاطر إلى الفنيدق من أجل العبور إلى سبتة المحتلة، عقب إغلاق المغرب باب الديوانة، شهر دجنبر لعام 2019، في وجه ممتهني التهريب المعيشي، بحجة إجراء أشغال الترميم والإصلاح.
وقد تمدد قرار الإغلاق في أثر انتشار فيروس كورونا بالمغرب شهر مارس لسنة 2020، في ظل الإجراءات الاحترازية المتخذة من المغرب، للتغلب على الوباء الذي تفشى في مختلف ربوع العالم، ولا يزال القرار ساريا حتى يومنا هذا.
هذا القرار أرخى بظلاله على ساكنة الفنيدق والمدن المجاورة كالمضيق، ومارتيل، وتطوان، التي وجدت نفسها تعاني ويلات البطالة بانقطاع مصدر رزقها الوحيد، بعدما اعتادت لعقود من الزمن أن تحصِّل لقمة العيش من احتراف التهريب المعيشي عبر باب الديوانة.
ولا تزال مشاهد العبور الكبير لآلاف القاصرين المغاربة نحو سبتة، أواسط شتنبر الماضي، عالقة في الأذهان، وتمثل مثالا حيا يعكس تجذر ظاهرة الهجرة غير الشرعية في عقول الجيل الصاعد، بما يدق نواقيس الخطر، ويسائل النموذج التنموي في مجالات التعليم، والتكوين، والتشغيل.
أسباب الظاهرة
يعدد محمد نبيل البازي، رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالمضيق، أسباب الهجرة غير النظامية من الفنيدق صوب مدينة سبتة المحتلة، في ثلاثة أسباب رئيسة، وهي: شح فرص الشغل بعد إغلاق معبر طارخال، الشهير بباب الديوانة، وغياب بدائل حقيقية اقتصادية، وعدم استفادة أبناء المنطقة من المشاريع القائمة داخل حدود إقليم تطوان، وعمالة المضيق الفنيدق، على حد سواء.
ويكشف محمد نبيل البازي، في اتصال مع مجلة إيكوبريس، أن ساكنة المنطقة كانت تعيش نوعا من الرفاهية قبل قرار إغلاق باب الديوانة، ذلك أن متوسط الدخل الفردي اليومي كان يتجاوز400 درهم، مع الانخفاض المسجل في مستوى المعيشة حينها، حسب قوله.
ويشدد البازي على أن الهجرة غير النظامية في اتجاه سبتة لم تكن تشغل سابقا مخيلة أي شاب أو شابة من عمالة المضيق الفنيدق، غير أن إغلاق معبر طارخال، وغياب بدائل حقيقية متاحة أمام ساكنة المنطقة، أفرز ظاهرة الهجرة غير النظامية التي تنامت بشكل كبير في الآونة الأخيرة.
مساءلة برنامج التشغيل
يربط محمد نبيل البازي نجاح النموذج التنموي أو فشله في شق التشغيل، بالوقائع التي تُظْهِرُ أن الساكنة لم تنتفع به على الإطلاق، كما لم ينعكس عليها إيجابا، مشيرا إلى أن ارتفاع الهجرة غير النظامية دليل واضح على فشله، رغم كل الشعارات الرنانة المتعلقة بالتنمية المحلية، والإقلاع الاقتصادي، التي يجري الترويج لها عبر وسائل الإعلام.
ويوضح محمد نبيل البازي أن خلق منطقة اقتصادية، واستثمار المؤهلات السياحية على طول عمالة المضيق الفنيدق، وإطلاق مشاريع دعم الشباب التي كلفت الدولة أموالا طائلة لم تحدث أي تحسن في المنطقة، بل عجزت عن تحجيم نسبة العطالة، مردفا: “ثمة مشاريع كان بإمكانها أن تساعد على الحد من البطالة، كالسوق المركزي لبيع الاسماك، لكن جرى نقله إلى مدينة تطوان”.
ويقول البازي إن الساكنة لم تلمس أي تغيير في البديل الاقتصادي المحدث لتعويض إغلاق باب الديوانة، بل إنها تجزم بازدياد الأمور سوءا سنة بعد أخرى، مثيرا تساؤلات عن الهدف من مشروع المنطقة الاقتصادية، والفئات المستفيدة منه، وخضوعه إلى دراسة سوسيو اقتصادية قبل تنزيله على أرض الواقع، ملمحا إلى إدراجه ضمن مشاريع التنمية الاستعراضية، أو المشاريع الارتجالية التي تروم فقط إسكات الساكنة، وفق تصريحه.
ثم يلقي باللائمة على المجالس الانتخابية التي تُسَيِّرُ الجماعات الواقعة بتراب عمالة المضيق الفنيدق، مبرزا أنها تفتقر إلى روح المسؤولية، إذ تنشغل بتصفية الحسابات الشخصية، في الوقت الذي يجدر بها أن تسهر على خدمة المواطنين، حسب ما أدلى به للمجلة.
مساءلة التعليم والتكوين
يذهب محمد نبيل البازي إلى أن أحد أبرز العوامل المحفزة على تنامي الهجرة بين صفوف القاصرين والشباب يظهر في افتقاد التعليم جاذبيته، جراء ارتفاع نسبة المعطلين من أصحاب الشهادات في المنطقة، إذ لا يخلو حي أو أسرة من المعطلين ذوي الشهادات.
ويعري البازي فشل الدولة المغربية في مخطط ربط التعليم والتكوين بالمحيطين الاجتماعي والاقتصادي، مشددا على ضرورة ملء الفجوة بين التعليم وسوق العمل، حتى يسترجع الحالمون بتحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية ثقتهم بالتعليم والتكوين بوصفهما بوابتين تفضيان إلى مستقبل زاهر.
من جهته، يُقِيمُ عبد الوهاب السحيمي، الفاعل التربوي، علاقة بين عبور القاصرين إلى سبتة وغياب الالتقائية بين المدرسة والجامعة وسوق الشغل، ويشرح الالتقائية بضرورة فرض الحكومة على الشركات الجلوس إلى طاولة الحوار، من أجل التداول في نوع الخريجين الذين تحتاج إليهم الشركات، من حيث التكوين المعرفي والمهارات، وغيرهما.
وينادي عبد الوهاب السحيمي، في حوار مع مجلة إيكوبريس، بإحداث تنسيق بين المدرسة، والجامعة، وسوق الشغل لتحديد ماذا نريد، مدليا بحقيقة مفادها أن المدرسة تشتغل حاليا بمناهج قديمة معزولة عن الواقع الراهن، حتى أن عمر بعض منها يتجاوز 20 سنة، في حين يحتاج أرباب الشركات خريجين يمتلكون مهارات وكفايات تلائم سنة 2025، خاصة على مستوى اللغات والإعلاميات التي تشهد ثورة عظمى تتجلى في الذكاء الاصطناعي.
كما يُفَصِّلُ القول في تداعيات غياب الالتقائية التي تحفر هوة واسعة بين المدرسة والجامعة وسوق الشغل، ذلك أنه يحصرها في ابتعاد الخريجين كل البعد عن احتياجات سوق الشغل، بما يفرض عليهم البطالة، وتصديرهم إلى الجيل الصاعد من أقاربهم أو المحيطين بهم فكرة تكاد تصبح من المسلمات، ألا وهي افتقار التعليم إلى جدوى ملموسة.
كاين ما يدار؟
في معرض إجابته عن صدقية العبارة التي تلفظ بها الشرطي “كاين ما يدار في المغرب”، وهو ينصح أحد القاصرين بالعدول عن التسلل إلى سبتة يوم العبور الكبير، أواسط شتنبر 2024، يوضح عبد الوهاب السحيمي أنها عبارة تندرج في دائرة النصح ليس إلا، وأن أي شخص في مقام الشرطي حينها كان ليقوم بالأمر نفسه، مستدركا بالقول: “للأسف لم تبذل الحكومات المغربية أي مجهودات، ذلك أن رهانها هو استقطاب عدد كبير من الشركات، وتمتيعها بالتخفيضات الضريبية، وإمدادها بيد عاملة بأقل تكلفة”.
ويردف السحيمي بالقول في هذا الباب: “إن من المفروض أن تمنح الشركات الأولوية لأبناء المنطقة التي تستثمر فيها، وأن تعدل الحكومة عن معاملة هذه الشركات وفق منطق المحاباة والحظوة، خشية رحيلها عن المغرب، وتوطين استثماراتها خارج أراضيه”.
وكذلك يعترف بفقدان الجيل الحالي، بل حتى الأجيال السابقة الثقة في التعليم والتكوين، معززا قوله بعيش أكثر من 5 مليون مغربي في بلاد المهجر، وهو ما يعادل دولة أخرى، بالنظر إلى أن دولا في الأمم المتحدة لا يتعدى عدد سكانها هذا الرقم، على حد تعبيره.
ويختم حديثه بالتأسف على تنامي فقدان فئة عريضة من المغاربة الأمل في التعليم بوصفه رافعة رئيسة من رافعات التنمية، منذرا بفقدان فئة أخرى الثقة في حياتها، ويسوق هنا بنبرة حزينة للاستدلال مغامرة الكثيرين بأرواحهم من أجل العبور إلى الضفة الأخرى سباحة أو على قوارب الموت، مستغربا انفصالَ التعليم عن الواقع، وتخبطَه في كفايات القرن الـ 20، في الوقت الذي نمضي إلى النصف الأول من القرن الـ 21، وسط انفجار تواصلي يتمثل في الذكاء الاصطناعي، والمنصات الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها.
فشل المنظومة التربوية محفز على الهجرة
يلفت عثمان الطويل، فاعل تربوي، إلى إجماع المهتمين بالشأن التربوي على أن أزمة المنظومة التربوية هي بالأساس نتيجة طبيعية لفشل الفاعل السياسي في تدبير الشأن العام، وهو حسب وجهة نظره، فشل تجر أذياله الحكومات المتعاقبة منذ فجر الاستقلال، والتي أهدرت عقودا من الزمن التنموي، وبذرت الملايير من المال العام، على برامج ظاهرها إصلاحي، وباطنها تخريبي، أجهز على كل القطاعات الاجتماعية، وفي مقدمتها التعليم والصحة.
ويقر عثمان الطويل، في حديثه إلى مجلة إيكوبريس، بأن عماد التنمية في كل المشاريع النهضوية هو التعليم، بالنظر لكون هذا القطاع يبني إنسانا مواطنا، متعلما، ماهرا، متشبعا بالقيم الدينية والإنسانية والوطنية. التي تؤطر كينونته، وتوجه فعله وسلوكه في الحياة، بما يخدم دينه وأمته ووطنه، ويسهم في تنميته.
ويدق الطويل ناقوس الخطر مما تشهده المنظومة التربوية التي تعيش ترديا ينذر بكارثة اجتماعية، واضعا نجاعة السياسات العمومية في دائرة المساءلة، خصوصا على المستوى الاجتماعي، وانسداد الأفق في وجه شباب الوطن، سواء الحاصلين منهم على شواهد عليا، أو الذين رمت بهم البرامج والمخططات الاجتماعية الفاشة خارج حجرات الدرس.
ويكشف المتحدث نفسه أن التلاميذ القاصرين والشباب ينشدون الهجرة نحو الضفة الأخرى، ويتربصون الفرص بالمدن الحدودية( سبتة ، مليلية) ليغادروا نحو عالم يبدو في تمثلاتهم الحل الوحيد للخروج من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والهرب من أسوار الوطن، نحو الحرية المزعومة ببلاد الغرب المتمدن المتقدم.
كما يسلط الضوء على الحقيقة الصادمة التي يصادفها السواد الأعظم من الأساتذة داخل الفصول الدراسية، ألا وهي حلم التلاميذ بالهجرة وقناعتهم الراسخة بعدم جدوى تعلمهم، وتحصلهم على شواهد عليا، داخل وطن يتعرض فيه الأستاذ، والطبيب، والممرض للضرب والتنكيل، والتوقيف عن العمل، والمتابعات القضائية، كلما خرج للشارع مطالبا بأبسط حقوقه الاجتماعية التي يكفلها له الدستور، والمواثيق الدولية.
ويلفت النظر إلى أن مساءلة النمودج التنموي بقطاع التعليم، تتطلب أساسا تفعيل منطوق المبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة، وذلك بملاحقة كل مسؤوول قضائيا، ثبت في حقه التقصير في أداء مهامه، أو تورط في إهدار المال العام، عبر صفقات عمومية مشبوهة وردت في تقارير رسمية، لكنها بقيت حبيسة الرفوف، مما يشجع الآخرين على سلك الطريق نفسه المدمر لما تبقى من تعليم عمومي، ووأد حلم التنمية المستدامة.
Discussion about this post