إيكو بريس –
رد من “متكلم” على رأي السيد وزير الأوقاف حول الربا والفوائد البنكية.
بقلم محمد نجيب بوليف أستاذ الإقتصاد ووزير الحكامة السابق
أود في بداية هذا الرد المختصر أن أؤكد أن الغرض منه ليس الوقوف على تفاصيل الجوانب الشرعية في مداخلة السيد وزير الأوقاف المعنونة ب”تجديد الدين في نظام إمارة المؤمنين”، خلال الدرس الحسني الأول لرمضان 1445هـ، والمرتبطة في شق منها برأيه (وليس فتواه) حول كون “الفوائد البنكية ليست ربا”، تاركا هذا الجانب للمختصين، وعلى راسهم مؤسسة “المجلس العلمي الأعلى” المكلفة بالفتوى على المستوى الرسمي للدولة، وكذا الفقهاء الثقاة، رغم أن لي دراية وافية بالموضوع لاشتغالي عليه لمدة تناهز أربعة عقود، ولكون بحثي لدكتوراه الدولة حول التمويلات البديلة اضطرني للغوص في أكثر من 200 مرجعا مرتبطا بالمعاملات المالية الإسلامية عند غالبية المدارس الفقهية والمجمعات الشرعية والباحثين الاقتصاديين المنتمين لمختلف التوجهات والمدارس والنظريات الاقتصادية. وسأكتفي في هذه العجالة ببسط بعض الجوانب والمسائل النظرية الاقتصادية (وعند الاقتضاء بعض تفريعاتها القانونية والشرعية) التي “غابت” عن الوزير، والتي استدل بها خطأ أو عن ضعف إلمام بالموضوع، علما أني لا أقصد بذلك شخص الوزير، ولا العلاقة الطيبة التي تجمعنا، بل أناقش الأفكار والآراء.
وسنعتمد في هذه الورقة على نسخة الدرس المنشورة، والتي جاء فيها: “أما القضية الثالثة عشرة فتهم التعامل مع الأبناك؛ ذلك أن بعض المتكلمين في الدين قد أحرجوا ضمير المسلمين بالقول إن الربا هو الفائدة على القرض بأي قدر كانت، مع العلم بأن حكمة القرآن جاءت للقطيعة مع ممارسة كانت شائعة في بعض الحضارات القديمة وهي استعباد العاجز عن رد الدين بفوائد مضاعفة، وكان بعض فلاسفة اليونان قد استنكروا ذلك. أما الاقتراض في هذا العصر فمعظمه للضرورة أو الاستثمار، وما يتم أداؤه من الفوائد يتعلق بثمن الأجل ومقابل الخدمات، فيما الفائدة تقل بقدر نمو الاقتصاد في البلد”.
ومن خلال محتوى هذه الفقرة من الدرس، يمكننا أن نبدي عدة ملاحظات، منها المنهجي ومنها الجوهري المرتبط بالمضمون، ومنها الاستشرافي المرتبط بالتوجه المالي الذي قد تعززه مثل هذه التصريحات في المستقبل.
فمن الناحية المنهجية، نرى أن السيد الوزير يقر في موضع آخر من درسه بأن “الانحرافات النظرية كانت على الأغلب ناجمة عن أخطاء في الإدراك بخلفية الاعتراض السياسي، بينما كانت الانحرافات العملية الأخلاقية ناشئة عن ضعف الوازع أمام الشهوات أو عن تحكم العادات”، وبأن التشخيص الذي قام به الوزير يحتم “أن العنصر المطلوب حضوره في معادلة التغيير والتجديد هم العلماء، علماء ربانيون متمكنون يكونون نماذج للناس في التواضع ومحاسبة النفس”. لكن ذلك لم يمنعه -وهو يناقش موضوعا من أشكل الأبواب الفقهية على كثير من أهل العلم، جعل بعضهم يشبه تعقيد مسألة الربا في المعاملات بتعقيد مسألة القدر في العقائد- من استعمال منطق “الإقصاء الفوري” للرأي الأساسي والمعتمد عند غالبية المسلمين، بحديثه منذ بداية تناوله لهذه النقطة عن “بعض المتكلمين في الدين”. وسنوضح لاحقا أن هؤلاء “المتكلمين في الدين” هم جمهور الرأي المحرم للفوائد البنكية في المذاهب الفقهية الرئيسية، وكذا كل المجمعات العلمية الشرعية عبر أنحاء العالم، مما يطرح سؤالا حقيقيا على السيد الوزير: من الذي يعتبر رأيه “تكلما في الدين”؟ هل الغالبية العظمى من مجتهدي المسلمين أم “القلة” التي لها رأي مخالف وتريد فرضه على الغالبية العظمى؟ كما هو الشأن حاليا بخصوص تعديل مدونة الأسرة، حيث تتصور بعض الجمعيات والهيآت، التي لا موقع اجتماعي ولها ولا تمثل أي امتداد شعبي، أنه بإمكانها تغيير نظام الإرث مثلا، بمجرد أنها تتذرع بقوانين دولية تخص أهلها وأصحابها من العلمانيين والملل الأخرى، ولا دخل لتدبير الأسرة المسلمة فيها. وبالتالي فإن الأصل المنهجي الذي أركز عليه في بداية هذا الرد هو أن “لا إلزام للأغلبية برأي الأقلية”.
والمسألة الثانية في المنهجية هي جزمه في بداية الأمر بمسلمات وكأنه “العالم البحر” الذي لا يفوته شيء، المطلع على كل ما قيل ويقال في موضوع التجديد، ومنه في المسائل المالية والبنكية، حيث نجده يقول: “لا أحد من هؤلاء المجددين قدم تحليلا عميقا لإشكال العلاقة بين المسلمين وبين هذا الطرف الثاني وهو الغرب، ولا أحد استطاع أن ينكر أن تفوق الغرب قام أساسا على العلوم وعلى تطبيقاتها الصناعية، وهي علوم ظل المسلمون في ريادة بعضها إلى ما قبل أربعة قرون، ولا أحد من هؤلاء الدعاة قدم تحليلا يدل على أنه فهم هذه الحضارة الغربية بكل مكوناتها وما جرى ويجري داخلها من نقاشات فكرية متعلقة بالوجود والسياسة والمجتمع والطبيعة، ولا أحد قابل بين الشعارات المثالية لهذه الحضارة وبين أفاعيلها في سياق الاستعمار والاستغلال الاقتصادي، ولا أحد عرض تلك الشعارات على المآسي الإنسانية التي وقعت باسمها…”. فهل السيد الوزير بالفعل يمكنه أن يؤكد أن لا أحد…لا أحد…؟ أم أنها فقط “مزايدات” فارغة يصعب تصديقها، حيث يعلم المختصون أن كل ما تكلم عنه الوزير من إشكالات قد عرفت نقاشا كبيرا وردودا كثيرة خلال مختلف الأزمان. وللتذكير فقط، أركز هنا على أن من بين أساسيات المنهج الذي ننصح بها الطلبة الباحثين هي “عدم التعميم” بدون دليل، و”عدم النفي التام” أو “الجزم التام”، لأن قصور الباحث (والمتكلم) أمر مسلم به، كما أن عدم العلم بالشيء لا يفيد أنه غير موجود.
والمسألة الثالثة في المنهجية هي أن هذه “اللاءات” النافية التي أطلقها السيد الوزير ارتبطت بموضوع له علاقة ب “العقيدة” الاقتصادية، حيث أضاف إلى ما سبق: “وإذا تعلق الأمر بالشعار الأعظم وهو الليبيرالية فلا أحد من هؤلاء بيَّن للمسلمين أن شيئا نافعا من هذا النظام يتعارض مع الإسلام، والحالة أن من المسلمين الملتزمين بقيم الدين مقاولون مبادرون من ذوي المؤسسات الصناعية والمالية الكبرى بمقاس العالم”. وهنا تكمن الغرابة في الاستدلال، حيث إن المدارس الاقتصادية المختلفة، تزخر بكتابات ونظريات كثيرة تؤكد أن الليبرالية تمتلك بعض المقومات الإيجابية لكنها تحتفظ بسلبيات جمة. وإذا كان الأصل في قبول ما عند الليبراليين هو ما عبر عنه السيد الوزير ب “الشيء النافع”، فإنه يكون بهذا القول قد لامس عمق الإشكال المنهجي، فما يظنه السيد الوزير نافعا في الليبرالية، ك “فوائد القروض”، قد لا أراه أنا نافعا، وبالتالي سأرفضه. ومن ثم وجب الاحتكام إلى أهل الاختصاص المرتبطين بقواعد “حاكمة” صارمة تستطيع الجزم ب “نفعية الشيء” من عدمها. ونظرا لضيق المجال، فلن أتحدث هنا عن القضايا الجوهرية الليبرالية التي تتعارض مع الإسلام، لأن ذلك من شأنه أن يبعدنا عن الهدف من هذه المقالة المختصرة.
وتتعلق المسألة المنهجية الرابعة بمنطق السيد الوزير في فهم التطورات التاريخية، رغم أنه من المختصين في التاريخ، حيث يقول بأن هناك مسلمين ملتزمين: “مقاولون مبادرون من ذوي المؤسسات الصناعية والمالية الكبرى بمقاس العالم”، وهو القول الذي يدفعنا للتساؤل عن السبب في استدلاله على صلاحية الليبرالية بمبادرة ومقاولة بعض المسلمين؟ ألم تكن المبادرة والمقاولة موجودة (بصيغ مختلفة ومتنوعة ومتطورة عبر الأزمان) منذ خلق الكون؟ بينما الليبرالية بمفهومها الغربي (كما تناولها السيد الوزير) طارئة في القرون الثلاثة الأخيرة؟ وهل كل المدارس الفكرية الاقتصادية الأخرى تمنع المقاولة والمبادرة؟ بمعنى آخر حتى يفهم القصد: أوليست الليبرالية طارئة؟ وبالتالي لا يمكن أن يحتكم إليها كمرجع؟ وهل حرم الإسلام المقاولة والمبادرة منذ البعثة ليؤكد لنا الوزير أن هناك من المسلمين (الذين يأخذون بالليبرالية) من يبادرون؟ ولماذا لا يعكس تفكيره (التاريخي)، فيعترف بأن الليبرالية هي التي انتقت ما أرادت من الاقتصاد “الإسلامي” والتعاليم الشرعية المرتبطة به؟ وتفاديا للإغراق في تفاصيل هذا الارتباط والعلاقة بين النظريتين الاقتصاديتين الإسلامية والليبرالية، أحيل السيد الوزير على كتابي “الاقتصاد الإسلامي ومساهمته في الاقتصاد السياسي المعاصر”، الذي يقدم بعض التوضيحات حول هذا الموضوع، وذلك من منطق الوزير نفسه الذي قال في درسه: “فالحضارة المادية ليست نتاجا حصريا للغرب، وللمسلمين إسهام فيها كبير”.
والمسألة الخامسة في المنهجية هي أن السيد الوزير تحدث في معرض “القضية الثالثة عشرة” التي تخصنا هنا عن “التمويلات التشاركية” كإجراء مرتبط بتجديد الدين، حيث قال: ” ومن تجديد نظام إمارة المؤمنين في هذا الباب إحداث معاملات بنكية “تسمت” بالمالية التشاركية، والمرجع في هذه العمليات هو المجلس العلمي الأعلى الذي أصدر لحد الآن أكثر من مائة وسبعين فتوى في الموضوع”. وبعيدا عن الدخول في تفاصيل مرتبطة باستعماله لفعل “تسمت” الذي يفيد نسبته للآخرين الذين سموها، بينما هو قد لا يكون من المحبذين لذلك، فإننا ننبهه فقط إلى أن الحديث عنها في مداخلته يفيد أن الحاجة الشرعية والمجتمعية لها كانت كبيرة، اعتبارا لكون الجمهور يعتبر فوائد البنوك ربوية، وإلا فما الحاجة إلى “التجديد” وإنشاء بنوك تشاركية تقوم بنفس ما تقوم به البنوك التقليدية؟ فإحداث الجديد يفيد عموما الحاجة إليه وعدم استجابة القديم لكل المطلوب.
أما في الشق الثاني من هذه الورقة، فسأحاول عرض بعض الأفكار الرئيسية المختصرة ارتباطا بما تفضل به السيد الوزير في قضيته الثالثة عشرة من درسه. وأراني مضطرا في هذا السياق أن أقدم نبذة مختصرة عن تطور التعاطي القانوني مع إشكالية الربا، أولا لتوضيح قول السيد الوزير: “مع العلم بأن حكمة القرآن جاءت للقطيعة مع ممارسة كانت شائعة في بعض الحضارات القديمة، وهي استعباد العاجز عن رد الدين بفوائد مضاعفة، وكان بعض فلاسفة اليونان قد استنكروا ذلك”، وثانيا للتركيز على نقطة مفصلية تتعلق بمآلات مثل تصريحات الوزير حول الفوائد البنكية، و التي يمكن أن نستشفها من خلال التطورات التي تتم في مجال التدبير الاقتصادي والمالي في العديد من البلدان الإسلامية، والتي تسير على نفس نهج التطورات التي تمت عند الغرب، حيث نجدها في العموم تسلك نفس مسالك الكنيسة، التي تطورت مع الزمن من التحريم التام للربا بكل أنواعه، إلى تحريم نوع فقط من القروض، إلى إجازة فوائد البنوك، إلى إجازة كل المعاملات الربوية دون استثناء…مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح عن أبي سعد الخدري: “لتتَّبعنَّ سَننَ من كانَ قبلَكم حذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ حتَّى لو دخلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتُموه. قالوا: اليَهودُ والنَّصارى؟ قالَ: فمَن؟”.
فبالرجوع إلى بداية بروز التعامل بالربا، نجد توثيقا لقروض بفائدة في بلاد ما بين النهرين وفي التوراة والإنجيل. فموقف التوراة كان هو تحريم الربا على الشخص القريب، كما ورد مثلا في حزقيال 18:”منع القروض بفائدة لأخيك لتسهيل خدمته لله”، لكن “الربا مرخص به للأجنبي لأن لديه أيضا إمكانية ممارسة القرض بفائدة”، أو في تثنية 23.19:”لا تأخذ على أخيك ربا عن فضة أو طعام أو شيء مما يقرض بفائدة”، لكن يمكنك “أخذ الربا”من الغريب، ولكن من أخيك لا تأخذ شيئا، لكي يباركك الرب في كل ما تعمل في الأرض التي ستمتلكها”. ولا يخفى هنا توجه اليهودية الذي يسمح باستغلال فئة “غير اليهود” من خلال عمل محرم، لا يجوز بين اليهود أنفسهم. وهنا تكمن بداية القصة.
كما أنه في وقت مبكر، أي حوالي 1750 قبل الميلاد، نص “قانون حمورابي” على تنظيم نسب الفوائد المرخص بها، بحد أقصى 20% أو 33% حسب المنتج المعار (نقود أو بذور). كما تم الاعتراف في الإمبراطورية الرومانية باستعمال القروض الربوية كنشاط تابع للزراعة والتجارة، لكن مع الحرص على معاقبة تجاوزاته، بحيث إذا كان اللصوص يعاقبون بأداء ثمن المسروق “مرتين”، فإن المرابين مدانون بأداء أربعة أضعاف الدين، مما يفيد أن عقوبة المرابي أشد من عقوبة السارق، وفيه إشارة واضحة إلى خطورة هذا الأمر.
أما في المسيحية، فيوجد التحريم “الوحيد” للربا في “العهد الجديد” في إنجيل “القديس لوقا 6: 34-35: “إذا أقرضتم من ترجون أن تستوفوا منه، فأي أجر تستحقون؟ حتى المخطئين يقرضون المخطئين لكي يرد إليهم المثل. على العكس من ذلك، أحبوا أعداءكم، وافعلوا الخير وأقرضوا دون أن تنتظروا أي شيء في المقابل. فسيكون أجركم عظيما وتكونوا أبناء العلي لأنه طيب مع غير الشاكرين والأشرار”. ومنذ ذلك الوقت، نرى أن القرض بفائدة أدانته جميع المجمعات المسيحية بناء على العهد القديم والعهد الجديد، والأحكام المفصلة عنها.ففي أوائل العصور الوسطى، تبنت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية التمييز الذي وضعه القانون الروماني فيما يتعلق بإقراض الممتلكات المنقولة، التي تكون عبارة عن أشياء يتم استهلاكها عن طريق الاستخدام أو تلك التي لا تستهلك (والمسماة سلعة commodatum). ففرض فائدة على “السلع” منافٍ للصدقة، كما أن المال سلعة لا تستهلك ولا تنمحي. وبالتالي يظهر أنه رغم تطور المعاملات التجارية والمالية، استطاعت الكنيسة أن تحافظ على خطها الواضح، بتأكيدها على تحريم كل أنواع الربا، ومنها القروض كيفما كانت نسبة فائدتها، أو فائدة القروض الاستهلاكية.
وخلال القرن الثاني عشر، انتقل الاقتصاد إلى مرحلة “النقدية”، فثار من جديد نقاش حول “عقيدة الربا”، والقروض بفائدة وحظرها. لكن الكنيسة استمرت في حظر ممارسة الربا، معتبرة ما قاله آرسطو حول كون “الإقراض بفائدة طريقة غير عادلة ومشينة وغير طبيعية للاستيلاء على أموال الغير”. ومن بين أهم الشخصيات المرموقة التي أدانت الإقراض بفائدة، أواسط القرن الثالث عشر، “توما الأكويني” الذي وضح ب “إن الحصول على فائدة مقابل استخدام الأموال المُقرضة هو في حد ذاته أمر غير عادل، لأنه يجعلك تدفع ثمن ما لا وجود له؛ وهو ما يشكل بوضوح ظلما مخالفا للعدالة…”. لكن العجيب في الأمر أن مقرضي رأس المال غير الخاضعين لقواعد الكنيسة الكاثوليكية قد نجوا من هذا الحظر، وهم اليهود أساسا، الذين تم إثبات وجودهم حوالي عام 1200 في جنيف وبازل، وبعد ذلك بقليل في زيورخ وسان غال ومدن أخرى، ولكن أيضا اللومبارد ” (الإيطاليين) والكاهورسين (الفرنسيين)؛ جميعهم كانوا يعتبرون متخصصين في تجارة المال والرهن. وهناك توثيق تاريخي هام يؤكد أنه لما سُئل “البابا بنديكتوس الرابع عشر” عام 1745عما إذا كان بإمكان مدينة “فيرونا” الاقتراض بفائدة 4%، فكان رده “أن الربا محظور مهما كانت نسبته”: ففي القرض الاستهلاكي، لا يمكننا أن نطالب باسترداد أموال أكثر مما أقرضنا، حتى ولو كان مبلغا متواضعا”. ومثل هذه الواقعة تؤكد على أن النقاش الذي يدور حاليا في بعض الدول الإسلامية حول جواز الفوائد المنخفضة قد ناقشه الآخرون منذ قرون، وأفتوا فيه بما هو الصواب. كما أنه في هاته الفترة، ظهرت بفرنسا بعض القوانين والسوابق القضائية التي تعمل على التمييز بين ما نسميه “الائتمان التجاري والاستثماري” و “الائتمان الاستهلاكي”. ففي مسائل التجارة والصناعة يجوز قرض المال إذا كان عقدا تشاركيا مباشرا أو للاستغلال المشترك الذي يشتمل على الاشتراك في المخاطر، لكنه يظل محرما عندما يكون مجرد أخذ للفائدة على الأرباح المحصلة. وهنا أيضا، يمكن أن نلمح أن النقاش الذي يريده البعض حول ضرورة التفريق بين القروض الاستهلاكية والقروض الاستثمارية لمنع جزء وإجازة جزء، هو نقاش قديم أيضا، قال فيه العلماء (الآخرون) رأيهم وفتواهم. كما نلفت الانتباه إلى هذا الاجتهاد الفرنسي الذي يمتح من الفقه الاقتصادي الإسلامي مبدأ المشاركة وتوزيع الأرباح.
ومنذ القرن الخامس عشر، أصبح من الممكن تأسيس بنوك في فرنسا مثلا، ومكافأة الأموال المقترضة، ولكن على أساس استثناء ملكي (الامتياز الممنوح بموجب خطابات خاصة وفق التزامات منظمة ومقننة). أما في المسائل العقارية، فلا تجوز الفائدة على المبالغ المقرضة إلا إذا كان على صيغة “الإيجار”، كما تعرف حاليا في القانون الحديث، أما في جميع الحالات الأخرى، أي فيما نسميه الائتمان الاستهلاكي، فتظل القروض ذات الفائدة محظورة من قبل الكنيسة، كما حظرت العديد من المراسيم الملكية تقديم أموال بفائدة للزراعة، بما في ذلك تحت أشكال “مقنعة” مثل قروض البذور أو عقود شراء المحاصيل القائمة.
وتجدر الإشارة إلى أن “اللاهوتيين” الأوائل الذين عارضوا الأفكار المتداولة بشكل عام وقبلوا قرض الفائدة كانوا من اللاهوتيين الهامشيين، لكن أفكارهم ساعدت على تغيير العقليات الغربية ببطء؛ مدعومة بالضغوط التي فرضتها الممارسة المصرفية، حيث انتشرت بسرعة، في القرن الثامن عشر، ممارسة الإقراض على أساس الفائدة بأوروبا، من خلال البنوك التي تنشط في تحويل وخصم الأوراق المالية أو الأوراق التجارية من مكان إلى آخر، وكذا بنوك الائتمان، والتي تعود جميعها تقريبا إلى “أصل بروتستانتي”. ومع الثورة الفرنسية، حصل التغيير الكبير، حيث أصبحت الأعمال المصرفية والإقراض بفائدة حرة تماما ولا تخضع لإكراهات الحل والتحريم، وقد اضطر هذا التطور إلى رفع الكنيسة الكاثوليكية إدانتها للإقراض بفائدة في عام 1830، لكن الفاتيكان لم يرسم هذا الأمر قانونيا إلا عام 1917.
والخلاصة هي أن ضغط وتطور الأعمال الاقتصادية والتجارية والمالية في الدول الغربية هو الذي دفع الكنيسة لتغيير موقفها ورأيها من الربا والفوائد، في غياب أية أدلة “شرعية” مختلفة عما كانت تؤمن به سابقا. وبالتالي نجد أنفسنا أمام سؤال محوري وهام لفهم فلسفة التشريع: هل يمكن للتطورات المجتمعية والاقتصادية أن تفرض تغييرا في المسلمات الشرعية الثابتة؟ (نفس منطق تغيير قواعد الإرث الشرعية نظرا للمتغيرات المجتمعية، كما يراها البعض). وهذا سؤال عميق أحبذ عدم الخوض فيه في هذه العجالة، لكنه يبقى هاما ومفصليا في فهم رأي السيد الوزير حول فوائد البنوك، بالنظر للسيرورة التي رأيناها أعلاه بخصوص تراجع الكنيسة مع بداية عصر “التنوير والنهضة” الأوروبية، وإفساحها المجال بعد الثورة الفرنسية لمبادئ “العلمانية” الغربية.
كما يستفاد مما سبق على أن تبرير السيد الوزير، الذي أرجع التحريم الأصلي للربا (ثم الاستمرار في التحريم لمئات السنين) إلى الاستغلال الكبير للناس بفوائد مرتفعة ومضاعفة، دون الفائدة اليسيرة، لا يسعفه التطور التاريخي لمستويات نسب الفوائد. فإذا كانت أسعار الفائدة في العصور القديمة قد ناهزت عموما حوالي 12% (1% شهريا)؛ فقد تم تخفيضها في زمن جستنيان (أواسط القرن السادس) بضغط من الكنيسة إلى 6% وإلى 8% للتجار والمصرفيين. بينما اتضح، في العصور الوسطى، أن الفائدة على القروض التجارية القصيرة والمتوسطة الأجل التي قدمها المقرضون “اليهود” و”اللومبارديون” قد ارتفعت كثيرا (بين 33% و43%)؛ لكن لم يكن أمام التجار خيار، بسبب الحظر القانوني، حتى عرض عليهم أمناء خزائن المدن ظروفا أفضل في نهاية القرن الرابع عشر… وعندما بدأت السلطات السيادية في تنظيم سوق سندات الإيجار في القرن السادس عشر، منعت الفوائد العينية وفرضت نسبة 5% نقدا، من أجل حماية المقترضين. ومنذ القرن السابع عشر، انخفض هذا المعدل إلى 3%، أو أقل، وخاصة بعد فوائض رأس المال في الأسواق. وقد حاولت السلطات مكافحة هذا التطور من خلال فرض حد أدنى لسعر الفائدة قدره 5% على خطابات الريع السنوي. وتشير الكتابات الاقتصادية إلى أن قانون الربا الصادر في 3 شتنبر 1807 قد حدد المعدل القانوني كما أراده نابليون: 5% للأفراد و6% للتجارة. وبالتالي فلم يكن هناك مشكل هيكلي متعلق بارتفاع الأسعار ليأتي تحريمها، بل جاء التحريم من حيث المبدأ، علما أن هذا لا ينفي وجود فترات محددة حصل فيها ارتفاع للفوائد نظرا لقلة العرض وارتفاع الطلب.
ولفهم عميق لمدلول الربا وارتباطه بالفوائد البنكية، لا بد من الرجوع إلى أصل الإشكال، المرتبط بتعريف النقود وحدود استعمالها. فالنظرية الاقتصادية (المجردة) ترى أن تعريف النقود يختلف باختلاف المقاربة المستعملة، هل هي وظيفية (وهي الشائعة)، أم نظمية (من حيث كون النقد ظاهرة اجتماعية تركز على ثقة المتعاملين في النظام التي تنتجه كأداة للتبادل) أم إحصائية (أي عنصر الموجودات، وهو مجموع الأصول المالية الأكثر سيولة). وبالنظر للتعريف الوظيفي للنقود، نجد آرسطو، منذ القدم قد حدد لها ثلاث وظائف أساسية: الأولى هي كونها وسيطا للتبادل، بمعنى أن “النقود تشتري المنتجات، كما أن المنتجات تشتري النقود، لكن المنتجات لا تشتري المنتجات في سوق منظمة (خارج المقايضة)، فالنقود بطبيعتها مختلفة عن المنتجات التي من خلالها يمكن التبادل. مما يضطرها للتوفر على مجموعة من الخصائص كالقبول العام وسهولة الحمل والقابلية للانقسام مع تماثل الوحدات والقابلية للدوام مع ثبات القيمة، إلخ.
أما الوظيفة الثانية، فهي كونها “وحدة للقياس”، بحيث تمكن النقود من إعطاء قيمة للخدمات والسلع. أما الوظيفة الثالثة، فهي المرتبطة بكونها “احتياطا للقيمة”، بحيث تعتبر ترحيلا لقدرة شرائية مستقبلية، بمعنى أنها احتياطي لهذه القدرة الشرائية. فالإنسان بطبعه يحتفظ بالنقود لأسباب عدة، كالخوف من المستقبل أو الاستعداد للطوارئ أو انتظار معلومات إضافية للتعامل في الأسواق، أو انتظار ظروف الرخص عوض الغلاء…ومع تطور المعاملات الاقتصادية والتجارية، أدرجت وظيفة إضافية تتعلق بكونها أداة للمدفوعات المؤجلة.
وانطلاقا من هذه الوظائف، حدد الإسلام موقفه من كيفية التعامل بالنقد، بحيث حرم جميع أنواع الربا، سواء تعلق الأمر بربا الجاهلية، المسمى حسب المدارس بربا الديون، أو ربا النسيئة، أو ربا القرآن، أو الربا الجلي، أو تعلق الأمر بربا البيوع (المسمى أيضا ربا الحديث أو الربا الخفي) الذي قسم إلى ربا نساء (تأخير أو تأجيل أحد البدلين) وربا فضل (زيادة أحد البدلين على الآخر عند مبادلة شيء بجنسه). وتبقى هناك بعض الاجتهادات التي تجيز صنفا من أصناف الربا حسب التعريف أعلاه، لكنها تبقى هامشية في مقابل شبه الإجماع المحرم للربا.
فقد أورد الفخر الرازي وغيره خمسة أوجه لتحريم الربا: أولها أن “الربا يقتضي أخذ مال الإنسان (بيع الدرهم بدرهم وعشرة مثلا) من غير عوض، وأخذ المال من غير عوض محرم. وثانيها لكونه “يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب ويفضي إلى انقطاع منافع الخلق”، حيث يتوجه الناس نحو الكسب السهل بالربا عوض التكسب بالعيش الذي يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة، وهو ما يركز عليه النظام الاقتصادي الإسلامي بالاعتماد على الاقتصاد “الحقيقي” عوض الاقتصاد “المالي”، وثالثها “أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض”، ورابعها: هو أن المقرض يكون غالبا غنيا (الأبناك)، والمستقرض يكون محتاجا للمال، وبالتالي لا يجب الزيادة في التمكين للغني على حساب المحتاج. وخامسها: أن حرمة الربا قد ثبتت بالنص، ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق.
واعتبارا لأن مسألة التحريم محسومة، فلن نفصل فيها، لكن لا بأس من التأكيد على أن الحكمة من تحريم الربا أعم بكثير مما ارتآه السيد الوزير الذي ربطها فقط بالقطع مع ممارسات استبدادية استعبادية لحضارات قديمة، استنكرها بعض فلاسفة اليونان، كما جاء في قوله: “مع العلم بأن حكمة القرآن جاءت للقطيعة مع ممارسة كانت شائعة في بعض الحضارات القديمة، وهي استعباد العاجز عن رد الدين بفوائد مضاعفة، وكان بعض فلاسفة اليونان قد استنكروا ذلك”. فتحريم الربا موضوع مركزي كبير في المعاملات، لم يأت كرد فعل، وللقطيعة فقط مع ممارسة واحدة خاصة لحضارة معينة، بل جاء لينظم أصل المعاملات التجارية والاقتصادية والمالية. فهو أساس مفصلي في الاقتصاد، مكن من بروز نظام إسلامي اقتصادي مالي يقوم على أركان رئيسية ك: “الاستخلاف في الأرض”، والملكية المزدوجة والحرية الاقتصادية المقيدة والتكافل الاجتماعي…هذه الأركان مكنت من إجازة جل التعاملات المعتبرة، باستثناء ما من شأنه أن يكون إضرارا بالمجتمع، وربا، وغررا، واستغلالا، وغشا، وأكلا لأموال الناس بالباطل، وسرقة، وغصبا، وأجرة حرام، ورشوة، واحتكارا، وقمارا، وميسرا… وبالتالي كان هذا النظام مستقلا بذاته، مع مجيء الإسلام، ثم أصبح لاحقا بديلا للنظامين الرأسمالي والاشتراكي اللذين لهما أسسهما ومرتكزاتهما المختلفة، قد يكون بعضها صالحا لتضمينه ضمن النظام الإسلامي.
ومن خلال جرد مختلف النصوص الشرعية المتعلقة بالربا، يتضح أن علة الربا مرتبطة إما بالثمنية أو الطعم أو الكيل أو الوزن. وبخصوص الفوائد البنكية التي ليست لا طعما ولا كيلا و لا وزنا، تبقى حسب رأينا علة التحريم مرتبطة بالثمنية، بحيث أن وظيفة النقود، كوحدة للقياس ووسيطا للتبادل، يمكنها من إعطاء أثمان وقيم للسلع والخدمات والمنقولات والعقارات، وليس الانتفاع بعين الأثمان أو النقود؛ أي الاستفادة منها لذاتها، والاتجار فيها قرضا وبيعا… كما هو شأن القروض البنكية بفوائد، علما أن طرفي المعاملة معنيين بالتحريم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “فمن زاد -أَو اسْتَزَادَ- فَقَدْ أَرْبَى، الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ”، كما أن التحريم يمس أصل العملية وليس قيمة الفائدة في حد ذاتها، ف”كثير الربا وقليله سواء”، كما أن “ما أسكر كثيره فقليله حرام”. وهذا هو أصل الخلاف في فهم دور النقود وعلة التحريم. وقد كان ذلك منذ نزول الوحي، حيث رد القرآن على الذين لم يفهموا دور النقود واستعملوها لغير غايتها: “ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْع وَحَرَ م الرِّبَا” (البقرة 274).
فمن حيث التطور التاربخي، رأينا كيف أن الربا كان في السابق عبارة عن “الفائدة” بغض النظر عن سعرها، لكن البعض اعتبر لاحقا أن الربا هي فقط الزيادة ذات القيمة الفاحشة على مبلغ القرض الأصلي. والمعدل الذي تصبح فيه الفائدة ربوية تحدده الدولة أو يحدده العرف. وعلى أساس هذا التمييز القديم بين سعر الفائدة المقبول وسعر الفائدة المفرط، تدين بعض التشريعات الحالية الربا (فرنسا وإيطاليا وكندا مثلا)، بحيث تحدد معدلات قصوى، تعرف باسم معدلات الربا. ففي كندا مثلا، قنن في 1 أبريل 1981 الحد القانوني للربا (الفائدة الفاحشة أو ما يعرف بusure ) في حد أقصى +60٪، وقد قدم مشروع قانون عام 2017 ليقلص هذا الحد الأقصى إلى 20%، لكن النص لم يقبل. أما في فرنسا، فب”هدف حماية الأفراد”، حدد المشرع الحد الأقصى لسعر الفائدة المطبق على معاملات القروض، في نسبة تزيد عن ثلث متوسط السعر الفعلي الذي تمارسه مؤسسات الائتمان. وقد حل هذا التعريف محل التعريف القديم الوحيد والعام الذي كان عبارة عن “ضعف سعر سوق السندات (TMO) في الشهر السابق” والذي كاد أن يسبب إشكالا قانونيا كبيرا خلال أزمات العملة في التسعينيات. وللإشارة، فإن القانون الفرنسي يعاقب مستعملي القروض الربوية حسب هذا المفهوم، بعقوبة الحبس لمدة سنتين وغرامة 45000 أورو، أو إحدى هاتين العقوبتين.
لكن بحسب ما وقفنا عليه في الأدبيات المالية، لا زالت بعض الدول، وخاصة الدول “الناشئة”، تغض الطرف حتى اليوم، عن أسعار الفائدة المفرطة على القروض في البنوك. ففي البرازيل مثلا، تفرض البنوك معدلات فائدة على الرهن العقاري تتراوح بين 4% إلى 5% شهريا، وهو ما يوازي 60% إلى 70% سنويا. أما بخصوص السحب على المكشوف من البنوك، فتصل الفائدة الشهرية إلى 14.5%، أو بمعدل سنوي قدره 230% عند احتساب الفائدة على الفائدة، بحيث يتحول السحب على المكشوف من البنك بقيمة 1000 يورو إلى 3300 يورو بعد عام واحد. أما بالنسبة للمغرب، فنجد القانون البنكي يحدد المعدل الأقصى لنسب الفائدة الاتفاقية لمؤسسات الائتمان حسب الفترات الزمنية، حيث كان بين أبريل 2020 – ماي 2021: 13.52%، وبين أبريل 2023-مارس 2024: 12.94%، وهنا نطرح السؤال على السيد الوزير: هل هذه هي الأسعار الربوية في رأيك؟ أي أن ما دونها “حلال”، وما فوقها “حرام”؟
ودون الدخول في التفاصيل الفقهية التي يمكن الرجوع لها في مظانها العلمية، يمكن القول بأن هناك شبه إجماع أو اتفاق واسع في القديم والحديث، وعند جميع المجامع الفقهية المعاصرة، سواء تلك التابعة للأزهر الشريف أو المنبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة، أو التابعة لرابطة العالم الإسلامي، أو جبهة علماء الأزهر الشريف أو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، حيث أقرت ب “أن الفائدة البنكية هي الربا المحرم”، وذلك بصيغ مختلفة ومتكاملة: ك “إن الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين القرض الاستهلاكي، والقرض الإنتاجي”، وإن ” كثير الربا وقليله حرام”، وإن “كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد، هاتان الصورتان ربا محرم.”، و”إن الفائدة المحددة التي تصرفها البنوك نظير إيداع الأموال بها هي من قبيل ربا الزيادة المحرم شرعا، ولا فرق في حرمة التعامل بالربا بين الأفراد والجماعات، أو بين الأفراد والدولة”، ومنهم من زاد: “يحرم على كل مسلم يتيسر له التعامل مع مصرف إسلامي، أن يتعامل مع المصارف الربوية في الداخل أو الخارج، وإذ لا عذر له في التعامل معها بعد وجود البديل الإسلامي، ويجب عليه أن يستعيض عن الخبيث بالطيب، ويستغني بالحلال عن الحرام”.
وباستثناء شبه الإجماع هذا، نجد فتاوى هنا وهناك تجيز “فوائد البنوك”، ولعل المشهور منها فتوى شيخ الأزهر الأسبق، الدكتور محمد سيد طنطاوي. ودون الدخول في تفاصيلها، نكتفي برد جبهة علماء الأزهر عليه، حيث سجل بيان العلماء تضارب فتاوي الشيخ حول فوائد البنوك. فمن جهة أصدر فتواه رقم 41/124، المسجلة في دار الإفتاء بتاريخ 20 فبراير 1989، حينما كان مفتيا للجمهورية، أكد فيها أن فوائد البنوك ربا محرم شرعا، قائلا: “لقد أجمع المسلمون على تحريم الربا، وهو في اصطلاح الفقهاء زيادة في معاوضة مال بمال دون مقابل”. وأن “تحريم الربا بهذا المعني أمر مجمع عليه في كل الأديان السماوية، ولما كان إيداع الأموال في البنوك أو إقراضها أو الاقتراض منها يأتي صورة من الصور مقابل فائدة محددة مقدما زمنا ومقدارا يعتبر قرضا بفائدة وكل قرض بفائدة محددة مقدما حرام شرعا”. ومن جهة صرح في برنامج “اليوم السابع”، (شتنبر 1989) بإباحة فوائد البنوك، بقوله: “إن من يقول إنني حرمتها فهو (كذاب، كذاب، كذاب)”. وقد رد عليه علماء الأزهر مؤكدين على حرمة الفوائد البنكية وتشبثهم بفتوى مجمع البحوث الإسلامية بتحريم فوائد البنوك عام 1965. لكن للإشارة، وهنا مربض الفرس الذي يدفعنا لإبراز موقفنا دون مواربة، عندنا تخوف من تغيير “الفتاوى” في فترات معينة، وما قد يكون من ورائه من توجه لدعم جهة مالية (أو موقف سياسي) على حساب جهة أخرى. فالمتابع لتغيير سيد “طنطاوي” لفتواه يرى أن الفتوى جاءت في وقت شنت فيه، ابتداء من 1988، حملة رسمية لمحاربة شركات توظيف الأموال بمصر، التي تستثمر أموالا طائلة للمواطنين، وهو ما جعل البنوك التجارية تعلن تضررها من تلك الشركات، فكان لابد من تقليص حجم عملها بعدما جذبت ودائع الناس، على حساب البنوك التي انخفض عدد العملاء المتعاملين معها، ف”جاءت الفتوى لتسكن ضمير الناس وتزيل شبهة اعتبار ودائع البنوك حراما، فيفتى بالحل، فيندفع الناس إلى البنوك مرة أخرى”. ونظرا لخطورة مثل هذه التصرفات المرتبطة بخلط الدين بقضايا تجارية و “سياسية”، وجب التنبيه إلى الحيثيات التي تؤدي إلى مثل هذه التغيرات الطارئة في المواقف، والتي تأتي من أشخاص بعينهم.
وبالرجوع إلى مختلف فتاوى المجلس العلمي الأعلى بالمغرب، نتأكد من أنه سلك نفس الموقف بتحريمه للفائدةَ البنكية، كما أن فقهاء المغرب وعلماءه متفقون على أن الفوائد البنكية هي الربا المحقق والمحرم بالإجماع. وقد اشتهر في هذا الباب رد المرحوم الدكتور محمد تاويل، الذي ألف كتابه المشهور “وأخيرا وقعت الواقعة وأبيح الربا: الفوائد البنكية”، بعد واقعة استدعاء وزير الأوقاف لخبير أجنبي ليقنع علماء المغرب بأن الفائدة البنكية ليست هي الربا المحرم في القرآن. وقد كانت لها قصة مع هذا الحدث عندما كنا نزاول مهامنا البرلمانية لا داعي للتفصيل فيها هنا.
ننتقل الآن لقول السيد الوزير حول أن “معظم القروض بالفائدة للضرورة أو الاستثمار”. وهو قول غير دقيق بالمرة، وذلك لعدة اعتبارات:
الاعتبار الأول مرتبط بالإحصائيات في حد ذاتها، بحيث لا توجد إحصائيات رسمية، ولا حتى للمؤسسات المالية والبنكية الخاصة، تشير إلى قروض متعلقة ب “الضرورة”. فالمعطيات المتوفرة تصنف القروض تصنيفات حسب الاستعمال أو حسب صنف المقترضين أو وفق آجال القروض. فهي إما قروض للأفراد والأسر، أو قروض للمقاولين الأفراد، أو قروض للمقاولات (مالية وغير مالية)، أو قروض للتجهيز، أو قروض للعقار والسكن، أو للإنعاش العقاري، أو قروض للحسابات المدينة والتسهيلات (الخزينة)، أو قروض للاستهلاك، وما تبقى هو قروض مختلفة على الزبناء (مالية أساسا). ولتوضيح الأمر، نقدم نموذجا من الإحصائيات الرسمية الصادرة في التقرير الأخير لبنك المغرب لعام 2022 (بمليار درهم خلال 2020 و2022):
ومن خلال ما سبق، نرى أن السيد الوزير “اختلق” تصنيفا خاصا به، لإيهام الناس بأن الذين يقترضون بفوائد من البنوك يفعلون ذلك في معظمهم للضرورة والاستثمار. فمن أين أتى بمعطياته التي تجعله يؤكد ذلك؟ وهنا لا بد من تنبيه السيد الوزير إلى مسألتين:
الأولى مرتبطة بكون الخبراء عندما يتحدثون عموما عن القروض الموجهة للاستثمار، فهي عادة ما تصنف في خانة قروض التجهيز، والجدول أعلاه يوضح أن قروض التجهيز بقيت في حدود 179.7 مليار درهم، بين 2020-2022، أي ما يناهز 16%-17% من مجموع القروض المقدمة للاقتصاد، وبالتالي لا يمكن القبول بما صرح به السيد الوزير من نسب غير صحيحة (معظم القروض) لتبرير موقفه.
أما الثانية فمرتبطة بمصطلح، كثيرا ما يتم استعماله دون ضوابط لتبرير الكثير من القرارات غير الشرعية، وهو “الضرورة”. وللإشارة فقد حرص الخبراء والعلماء على تعريف الضرورة تعريفا واضحا لا لبس فيه. فإذا كانت الضرورة في اللغة مشتقة من الاضطرار، وهو الاحتياج الشديد، كما عرفها الجرجاني في إحدى التعريفات المشهورة بكونها “النازل مما لا مدفع له”. فالتعريف الفقهي يذهب في مجمله إلى “أنها بلوغ الإنسان حدّا إن لم يتناول الممنوع، هلك، أو قارب، كالمضطر للأكل، أو اللبس، بحيث لو بقي جائعا، أو عريانا لمات، أو تلف منه عضو، وهذا يبيح تناول المحرم”. وبالتالي لا يمكن فهم موقف السيد الوزير إلا من باب التساهل المؤدي إلى الوقوع في المحرمات؛ بحجة الاضطرار إلى ذلك، كمن يريد “بناء بيت مثلا، فيطمع في اتساعه دون حاجة إليه، فيقترض بالربا، معتبرا ذلك ضرورة”.
وارتباطا بهذا التعريف المجمع عليه أعلاه، نطرح على السيد الوزير بعض التساؤلات:
هل الاقتراض لشراء منزل ب 5 مليون درهم مثلا ضرورة؟
وهل الاقتراض لشراء تلفزة من نوع جيد ب 10000 درهم ضرورة؟
وهل الاقتراض بفائدة للقيام برحلة سياحية لجزر “معينة” ب 50000 درهم ضرورة؟
وهل الاقتراض لتسديد أقساط تدريس الأبناء في مدارس خاصة -مع وجود بعض المدارس العمومية الجيدة- ضرورة؟
وهل الاقتراض لتلبية مصاريف الأبناء للدراسة بالخارج في بلدان تقبل بمعدلات متدنية ضرورة؟
وبعد أن يجيبنا السيد الوزير لمعرفة رأيه في الضرورة في مثل هذه الحالات، ننتقل معه للتنبيه على أن استعمال القاعدة الشرعية “الضرورات تبيح المحظورات”، مقيدة بقاعدة أخرى، وهي أن “الضرورة تقدر بقدرها”، لأن الأصل في ذلك حسب رأي الجمهور هو قوله تعالى” فَمَنِ اضْطُر غَيْر بَاغٍ وَلَا عَاد فَلَا إِثْم عَلَيْه” البقرة:172. غير باغ ـ أي: غير طالب للمحرم، مع قدرته على الحلال، أو مع عدم جوعه، ولا عاد ـ أي: متجاوز الحد في تناول ما أبيح له اضطرارا، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها. مما يفيد قطعا أنه وجب اعتراف الشخص بحرمة “الفوائد” وعدم الإسراف في أخذ قروض بفائدة في كل مرة، إذا ما أراد أن يصنف في خانة “المضطر” بعدما يستوفي الشروط أعلاه.
كما نود في هذه العجالة الجواب على تبرير آخر يستدل به في باب الضرورة، ويربطه البعض بالحاجة، علما أن الفرق بين الضرورة والحاجة واضح. فقد بينا آنفا أن الضرورة هي: بلوغ الإنسان حدا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب الهلاك، بينما تعبر الحاجة عن “الافتقار إلى الشيء الذي إذا توفر للإنسان رفع عنه الحرج والمشقة، وإذا لم يتحقق له لم يحصل له فساد عظيم، مثل المقترض الذي إذا لم يقترض لم يهلك”، والغالب أن بعض “المتكلمين” (استعمالا لمصطلح السيد الوزير) يقولون بجواز فوائد الأبناك بناء على الحاجة وليس على الضرورة. فالإنسان يحتاج للقرض الربوي ليشتري السيارة غير الضرورية، ومطبخ مجهز وهو غير ضروري، إلخ. ومع ذلك، اشترط العلماء في الحاجة المبيحة للمحظور شروطا أهمها ما يلي: أن تكون الشدة الباعثة لاقتناء المحظور بالغة درجة الحرج غير المعتاد، وأن يتم تقدير الحاجة بالنظر إلى أواسط الناس ومجموعهم أو للفئة المعنية، وألا يمكن الحصول على المحظور إلا بمخالفة الحكم العام، كما تقدر الحاجة بقدرها، وألا يخالف الحكم المبني على الحاجة نصا شرعيا، وألا يعارض قياسا صحيحا أقوى منه، وأن يكون مندرجا في مقاصد الشرع، وألا تفوت معه مصلحة أكبر.
ومحاولة منا إيجاد تبرير لما تفضل به السيد الوزير، اطلعنا على القروض الصغرى، المنظمة بقانون خاص، لعلنا نجد فيها شيئا من تلك الصبغة الاجتماعية والاحتياجية التي قد تصنفها ضمن “الضرورة” التي تحدث عنها الوزير، فوجدنا الأرقام الرسمية أعلاه تتحدث عن إجمالي هذه القروض الصغرى الذي يبقى في حدود 8.5 مليار درهم (أي 0.8% فقط من إجمالي القروض بالمغرب)، مما يعني أنها جد هامشية في مجموع القروض البنكية. والأدهى من ذلك أن الفوائد عليها هي أكبر بكثير مما هو متعارف عليه لدى البنوك في القروض الأخرى، رغم صبغتها الاجتماعية، مما يسائل السيد الوزير حقيقة عن منطقه في التعاطي مع الموضوع. كما أنه بالاطلاع على مختلف البرامج “الاجتماعية” التي تهم فئات الشباب المستثمرين، وجدنا أنه فيما يخص برنامج “انطلاقة” مثلا، الذي قد يسعف الوزير في تعليله، هناك حوالي 40% من الملفات يتم رفضها منذ البداية، بما يؤشر على أن منطق “الظروف الاجتماعية” (الضرورة) ليس معتبرا البتة في القروض بفائدة، كمعيار لمنحها.
أما قوله: “ما يتم أداؤه من الفوائد يتعلق بثمن الأجل ومقابل الخدمات”، فلنا عليه ملاحظات:
أولها أن تبرير الفائدة بكونها ثمن يقابل الخدمات المقدمة لا يستقيم لعدة أوجه. الوجه الأول هو ألا أحد يجادل في ضرورة أخذ المؤسسة البنكية لأجر مقابل خدمتها البنكية المرتبطة بتقديم القرض، لكن الإشكال يكمن في جعله نسبة من مبلغ القرض، وكذا في مبلغه المرتفع الذي لا يمكن أن يكون سعرا “عادلا” لخدمة مصرفية. فهل الذي يأخذ قرضا لسبب معين، ب 1 مليون درهم مثلا، نقول له بأن عليك أداء 4.5% كمقابل الخدمات، أي حوالي 45000 درهم سنويا، بما مجموعه 450000 درهم خلال عشر سنوات، أي ما يقارب نصف المبلغ المقترض. هذا غير مقبول ولا معقول. والأصوب أن يحدد مبلغ معين في مثل حجم هذا القرض، في حدود 2000 درهم سنويا مثلا مقابل الخدمات (الإلكترونية أساسا) المرتبطة بتدبير القرض، على أن يكون أقل من ذلك في حالة انخفاض مبلغ القرض، وخاصة أن الكل يعلم أن تدبير ملفات القروض يتم حاليا إلكترونيا، فسواء كان المبلغ المقترض 1000 درهما أو مليون درهم، فالفارق في تدبير الملفات يبقى في الأصفار المكتوبة على شاشات الحواسيب، ليس إلا، أما الأوراق المطلوبة وزمن التدبير فيكاد يكون نفسه. وقد اشتهر عند المؤسسات المقرضة باب من المصاريف معروف هو “مصاريف الملف”، مختلف تماما عن باب الفائدة.
أما الملاحظة الثانية فمرتبطة بمستوى نسب الفائدة في حد ذاتها. فقد عرفت كثير من دول العالم منذ بداية هذا القرن نسبا سلبية للفائدة (-0.5% في منطقة اليورو، بين -0.1%و-0.5% في السويد، -0.75% بسويسرا، -0.6% بالدنمارك…). وإذا أخذنا نموذج اليابان مثلا، فقد قررت بداية هذا الشهر أن تنتقل، بعد 17 سنة من التطبيق، من أسعار الفائدة “السلبية”، التي ناهزت مؤخرا -0.1%، إلى أسعار بالكاد فوق الصفر. وفي حالات الفائدة السلبية، يتم تطبيق سياسة خاصة على ودائع الأفراد والمؤسسات والشركات في البنوك، تتمثل في دفعهم لنسبة من الفوائد مقابل حفظ أموالهم في البنك، كما تعني نظريا أن يتم الإقراض ليس بكلفة أقل أو حتى من دون كلفة، ولكن أن يدفع البنك للمقترض، والعكس للمدخرين، فيكون على من يدخر أمواله أن يدفع للبنك الذي يدخرها فيه. ففي هاته الحالات مثلا، ما هو التفسير الذي يمكن أن يقدمه السيد الوزير عن كون فائدة القروض (السلبية) هي مقابل الخدمات المقدمة؟
أما فيما يتعلق بكون الفوائد البنكية نظير الأجل، ففيه نقاش فقهي عريض حرصت على تدوينه مختلف الكتب الفقهية الشهيرة. كما أن المدارس الاقتصادية ألفت فيه نظريات مختلفة من قبيل نظرية الامتناع أو الانتظار أو الزهد abstinence، ونظرية تفضيل الوقتpréférence، ونظرية انخفاض قيمة المستقبل dépréciation du futur وغيرها. ولكون قصدنا من هذه الورقة عدم الدخول في عمق النقاشات الفقهية والقانونية، فسنكتفي بالإشارة إلى أن هناك اتفاقا بين المختصين على “أن وجوب إيجاد الأجل، أو عدم وجوده في القرض، ليس له أي تأثير على صحة التعامل بالقرض، ولا يُخرجه من مضمونه الأساسي”، كما أن “محور الاختلاف في مسألة الأجل في القرض تتعلق بلزومه أو عدم لزومه، وليس باشتراط الأجل في القرض”. والمعلوم أن بيع التأجيل/الآجل غير بيع الحاضر، وفيه شبه إجماع على أنه يجوز بيع السلعة (وليس المال والنقد) إلى أجل معلوم بأكثر من ثمنها الحالي، إذا كان المشتري يشتريها لحاجته إلى ذاتها”، لقوله سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ” (البقرة: 281)، ولم يشترط سعرا معلوما، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص بيع السلم عندما جاء المدينة والناس يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث: “من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم”، ولم يقل بسعر الحاضر.
أما قول السيد الوزير” فيما الفائدة تقل بقدر نمو الاقتصاد في البلد”. فإذا كانت العبارة حمالة أوجه، فالأساسي عندنا هو أن علاقة الفائدة بالنمو تبقى من المواضيع النظرية الكبرى في علم الاقتصاد، وجانبا حاسما لفهم دينامياته. وقد خصها الباحثون والمتخصصون بدراسات نظرية وقياسية مكنت من بروز عدة توجهات فكرية بخصوصها. لكن بعيدا عن التفاصيل النظرية التي يمكن الرجوع لها في مظانها، يمكن الإقرار بكون أسعار الفائدة لها أدوار متعددة الأوجه في الاقتصاد، حيث تؤثر من جهة على قرارات الاستثمار، كما يمكن أن تكون محفزا للإنفاق الاستهلاكي، أو تستخدم كأداة للسيطرة على التضخم. كما أن العلاقة بين النمو الاقتصادي وأسعار الفائدة ليست طريقا باتجاه واحد، حيث يمكن بالمقابل لمستوى النمو أن يؤثر في مستويات الفائدة. فإذا كانت أسعار الفائدة المنخفضة تحفز النمو الاقتصادي بشكل عام خلال فترات النمو المنخفض أو الركود بدعم الاقتراض والإنفاق، فإن بقاء هذه الأسعار منخفضة للغاية لفترة طويلة من الزمن قد تكون لها آثار سلبية لأنها ستؤدي إلى سلوك المضاربة، وفقاعات الأصول، والإفراط في خوض المجازفات، مما سيخلق اختلالات في الاقتصاد وربما يؤدي إلى عدم الاستقرار المالي. كما أنه على العكس من ذلك، يتم استخدام أسعار الفائدة المرتفعة للحد من الإفراط في الاقتراض والإنفاق خلال أوقات الانهاك الاقتصادي. وبالتالي فالقول مثلا أنه كلما ارتفع النمو الاقتصادي بالبلد، قلت معدلات الفائدة، هو كلام عام، يمكن أن يكون صحيحا كما يمكن أن يكون خاطئا، لأن تدبير نسب الفائدة مرتبط بأساسيات اقتصادية واجتماعية ونقدية، قد يكون النمو الاقتصادي جزء منها. فخلال سنة أو سنتين، قد ترتفع أسعار الفوائد وقد تنخفض كثيرا إذا كانت هناك فترات للركود الاقتصادي، أو فترات للتضخم الجامح، أو فترات تهاوي العملات الوطنية، إلخ. فالمتتبع مثلا لسلوك الولايات المتحدة الأمريكية (رفعت نسب الفائدة ست مرات بين 2021 و2022 من حوالي 0.5% إلى 4.5% بينما نسب النمو لم تتحرك إلا قليلا)، والاتحاد الأوروبي في تدبير العلاقة بين النمو والفوائد، سيرى أنه مختلف عن السلوك الذي انتهجته تركيا مثلا التي لها إشكالياتها المرتبطة بالارتفاع الفاحش للتضخم وتهاوي العملة التركية، أو روسيا أيضا، التي لها إشكالاتها الاقتصادية المرتبطة بالحظر الأوروبي على منتجاتها جراء حربها بأوكرانيا.
وختاما، بعد الخرجات (المتقطعة) لبعض المشرفين على الشأن الديني في بعض الدول الإسلامية (نموذج الشيخ طنطاوي سابقا، والوزير التوفيق حاليا)، لا يمكن للمرء إلا أن يسلك الطريق القويم الذي يحث على “اتقاء الشبهات استبراء للدين والعرض”، كما ثبت عن الرسول الكريم في قوله: “إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ وبينهما أمورٌ مُشتبِهاتٌ لا يعلمهنَّ كثير من الناس فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه ، ومن وقع في الشُّبهاتِ وقع في الحرامِ ، كالراعي يرعى حول الحِمى يوشكُ أن يرتعَ فيه ، ألا وإنَّ لكل ملكٍ حمى ، ألا وإن حمى اللهِ محارمُه ، ألا وإن في الجسدِ مُضغة إذا صلُحتْ صلُح الجسدُ كلُّه وإذا فسدتْ فسد الجسدُ كلُّه ألا وهي القلبُ”. نقول ذلك وكلنا يعلم أن النقاش الأبدي حول الربا قد أخبرنا الله سبحانه عنه في القرآن، وأعطانا الجواب: “ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، وأحل الله البيع وحرم الربا” (البقرة 273؟)، كما أن هذا الربا قد انتشر بطريقة كبيرة وفي شتى المجالات والمعاملات، كما أخبر بذلك الرسول الكريم: “الربا ثلاثة وسبعون بابا”، والخوف كل الخوف أن ندخل في صنف من تحدث عنهم الرسول الكريم ” لَيَأْتِيَن على النّاسِ زَمَان لاَ يَبْقَى أحَد إلا أكل الربَا، فَإن لَمْ يَأْكُلْهُ أصابهُ مِنْ غبَارِه”. نسأل الله العفو والعافية…والله أعلم وأتم.
Discussion about this post