غوتنبورغ – عبد الرحيم بلشقار (30 دجنبر 2019)
شكلت زيارتي لدولة السويد التي ادعى “الفعفاع” صلاح الدين مزوار أنه فعفعها في قضية الصحراء المغربية. فرصة للوقوف عن قرب على مؤهلات وإمكانيات هذا البلد المتقدم، فليس من رأى كمن سمع، فقد كان شغفي كبيرا لمعرفة كيف لبلد لا يمتلك نفطا ولا غازا ولا فلاحة ولا سياحة، لكنه متفوق في سلم التصنيف الدولي، إذ أن السويد تحتل المرتبة الأولى في العالم في مؤشر الإيكونوميست للديمقراطية، والسابعة في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية.
لم يكن الطقس القاسي (البارد جدا أغلب فترات السنة) ولا التضاريس الوعرة (هضاب عليا جبال صخرية وكتل الثلوج والصقيع) والتي تطغى على أرجاء هذا البلد الاسكندنافي أقصى شرق أوروبا، عائقا ولا مانعا أمام هذا الشعب ولا مبررا له كي يستسلم للكسل، بل كانت هذه العوامل دافعا لتطويع وعورة الطبيعة وقساوة المناخ لصالح الإنسان المحلي الذي جعل من بلده قاعدة صناعية قوية تشكل موردا رئيسيا للدخل والاستقرار والرفاه الاجتماعي، والنمو والتقدم الاقتصادي.
تتميز المنتوجات الصناعية المحلية بخصائص قل نظيرها في غيرها، الجودة العالية والضمانة المديدة، فمثلا عربات Volvo (سيارات حافلات جرارات..) وهي إحدى الشركات العملاقة في الصناعة الميكانيكية، تعتبر رائدة السلامة عالميا، كما أن نظيراتها Scania المتفردة أيضا بابتكارات لا تقل جودة وإتقانا وصلابة في مجال الصناعة الثقيلة، مثل الشاحنات الضخمة ومختلف الأجهزة والمحركات الميكانيكية، علما أن تاريخ أول اختراع لسياراتها يعود إلى سنة 1901، ومنذ سنوات تعد صناعاتها الميكانيكية أكبر صادراتها من التجارة الخارجية.
ولو أن مملكة السويد بلد مسالم لم يشارك في الحريين العالمية الأولى ولا الثانية، حيث ظل على الحياد رغم محاولة النازي هتلر اجتياحه من جهة الشمال، فقد أولت الدولة اهتماما للصناعة الحربية حيث تمتلك طائرات ومروحيات ومدافع وأسلحة حربية جد متطورة، تصدرها لأغلب دول العالم.
ونظرا لغناها الطبيعي ووفرة غاباتها، فإن السويد تمتلك أجود الخشب في العالم، ومنه استمدت شركة إيكيا الرائدة في صناعة الأثاث المنزلي شهرتها، حيث تتواجد في أكثر من 70 دولة حول العالم بما فيها المغرب تصدر إليها آخر تصاميم وابتكارات المفروشات والمنسوجات والمكاتب والإكسسوارات والستائر والأجهزة الإلكترو منزلية…
لا هشاشة ولا ليونة !
الإتقان والجودة سمتان مميزات لكل ما ينتجه الإنسان السويدي في مختلف فروع الصناعة، فمثلا الحذاء المصنع في السويد معد لمواجهة وعورة كل أصناف التضاريس حتى أنه يبلى ولا يموت، أو بالأحرى يموت واقفا غير ممزق. وقس على ذلك سائر المصنوعات مثل الملابس وكل المنتوجات ذات الاستعمالات المهنية والرياضية وحتى المنزلية.
وبما أن جغرافية هذه الأرض وعرة فإن مبانيها وتجهيزات البنية التحتية من طرق وقناطر وأنفاق شديدة الصلابة والتماسك، فقد تفننت مقاولاتها #المواطنة في بناء المنشآت الفنية وهندستها بإحكام وإتقان، لا أثر هنا للغش والتحايل. فلا يمكن أن تسمع في الأخبار عن انهيار قنطرة أو جزء منها أو سقوط نفق ما رغم أن بعضها يخترق جبالا صخرية، ولا أدل على ذلك #جسر_أوريسوند الذي يربط بين مالمو السويدية وكوبنهاغن الدنماركية.
كما تمتاز السويد بقطاع نقل جد متطور كله من صنع محلي، ففي مدينة غوتنبورغ مثلا يمكنك مشاهدة عربات طرام ليست حديثة الصنع، لكنها أنيقة وقوية تصول وتجول فوق سكتها بسلاسة وهدوء، لا تكاد تسمع زعيق محركاتها رغم قدم صنعها، أما حافلات النقل الحضري فتبهرك زرقة حافلاتها وهي منتشرة كالنمل في كل الشوارع، تتحرك وتنقل ركابها إلى وجهتهم بكل لطف حتى تشعر من شدة خفة حركتها كأنكرعلى جناح طائر خفيف الظل.
بلد كريم وشعب مضياف
غالبية شعب هذا البلد بشوش طيب منفتح على الآخر، لذا فليس من الغريب احتضان هذه الأرض الأوروبية أكبر عدد من اللاجئين والمهاجرين الفارين من جحيم الحرب في الصومالل فسطين العراق ألبانيا اليمن وسوريا مؤخرا، وكلهم يعيشون معززين مكرمين بجميع حقوق المواطنة دون تمييز أو حيف، ويجدر الذكر هنا إلى أن جذور هذا الحس الإنساني النبيل ليس بجديد على هذا البلد الذي بذل جهود إغاثية كبيرة ما بعد الحرب العالمية الأولى، عندما فتح حدوده للكثير من اللاجئين وبالأخص من اليهود من المناطق التي خضعت للاحتلال النازي.
وقبل تشدد قوانين اللجوء كانت السويد تستقبل 100 ألف لاجئ كل عام وذلك في إطار برنامج التوطين التابع للأمم المتحدة، وتتعامل معهم بسخاء، ومع ذلك لم يؤثر إنفاقها على تصنيفها الدولي كونها واحدة من أكثر دول العالم تطوراً من حيث الرفاه الاجتماعي، حيث تمتلك البلاد أعلى مستوى من الإنفاق الاجتماعي من الناتج المحلي الإجمالي، كما توفر وصولاً شاملاً للتعليم والرعاية الصحية جميع المقيمين فوق ترابها على قدم المساواة.
سيادة القانون سر التفوق !
لم يأت تفوق هذا البلد الاسكندنافي اقتصاديا وتنمويا من فراغ، وليس من التطور الصناعي وحده، بل كان إرساء قواعد النظام الديمقراطي أحد الثوابت والمرتكزات التي قعدت لدولة الحق والقانون، فرغم كون السويد مملكة دستورية، إلا أن البرلمان يحمل سلطة مطلقة، يختار رئيس الوزراء ويمارس سلطته التشريعية، بينما تمارس الحكومة سلطة تنفيذية، والقضاء يمتلك استقلالية تامة.
القانون في هذا البلد فوق الجميع ويسري على الجميع، ولربما كان هذا أحد أهم الأسبابفي كون هذا البلد من أكثر الدول شفافية وأقلها انخفاضا في نسبة الفساد من بين 186 دولة حول العالم.
فلا عجب إذن أن يفتخر الإنسان السويدي بحب بلده بجنون، ليس بالأغاني والرقص كما يفعل أشقاؤنا المصريون، بل بالقول والعمل، فعلى سبيل المثال هنا محطات الوقود لا تشغل الإنسان لخدمة الزبناء، إنما كل شخص يخدم نفسه بنفسه في تزويد عربته بالوقود باستعمال البطاقة البنكية، ورغم وجود إمكانية التحايل والتلاعب فإنكك لن تجد مواطنا سويديا يسرق لترات إضافية من الغازوال والبنزين، بل على العكس من ذلك يمكنك أن ترى مواطنا ينادي على إدارة شركة المحروقات أو شركة موقف السيارات لإصلاح عداد الأداء إذا تعطل.
هذا المبدأ المتأصل في الإنسان المحلي يعكس تفسيرا واحدا، هو أن المواطن السويدي مطمئن إلى أن حقه من ثروة بلاده مضمون، وبأن الدولة رغم “تغولها” على جيبه ضريبيا بنسبة 31 في المائة تقريبا، فإنه مطمئن إلى أنها لا تهضمه في جهد عمله، ولا تأكله في عرقه، ولا تستحوذ على حقوقه، لذا فمواطنو هذا البلد لا يتملكهم الطمع اتجاه أملاك العموم ولا البخل في الاستهلاك من جيوبهم ولا القلق على مستقبلهم.
فاللهم ارزق مغربنا تفعفيعة السويد ولا تحرمنا بركتها آميين.