القطار الجهوي… من مشروع تقني إلى رهان حضري
لم يعد مستقبل المدن الكبرى يُقاس فقط بعدد سكانها أو حجم توسعها العمراني، بل بقدرتها على التحرك كمنظومة حضرية واحدة. في هذا السياق، يطرح مشروع القطار الجهوي في الدار البيضاء الكبرى سؤالًا استراتيجيًا: هل يمكن لهذا النموذج أن يحوّل العاصمة الاقتصادية للمغرب إلى أكبر كتلة حضرية متصلة في إفريقيا؟
التجارب الدولية، خصوصًا تجربة RER في فرنسا، أظهرت أن شبكات النقل الجهوي لا تُغيّر فقط أنماط التنقل، بل تعيد تشكيل المجال الحضري، وتؤثر مباشرة في السلوك الاقتصادي والاجتماعي للسكان.
حين تتحول المسافة إلى وقت
أهم ما أحدثه النقل الجهوي في المدن الكبرى هو الانتقال من منطق المسافة إلى منطق الزمن. ففي باريس، لم يعد السكن في الضواحي عائقًا، لأن الوصول إلى مركز المدينة، أو إلى مناطق الترفيه والتجارة الكبرى، يتم في زمن محسوب ودقيق.
بالنسبة للدار البيضاء، فإن الحديث عن شبكة نقل جهوي بثلاثة خطوط يفتح أفقًا مشابهًا. فبدل التفكير في التوسع العشوائي، يصبح الرهان هو ربط المجالات الحضرية ببعضها، بحيث لا تُقاس بنسليمان أو المحمدية أو النواصر بالكيلومترات، بل بالدقائق. هذا التحول الذهني هو أساس بناء كتلة حضرية قوية.
ربط النقل بخلق القيمة الاقتصادية
غير أن نجاح القطار الجهوي لا يرتبط فقط بالبنية التحتية، بل بوظيفتها الاقتصادية. فتوسيع شبكة قد تتجاوز 500 كيلومتر يتطلب استثمارات ضخمة، ولا يمكن أن يكون مستدامًا دون ربطه بمناطق خلق الثروة: أقطاب ترفيهية، مراكز تجارية كبرى، مناطق خدماتية، ومرافق عمومية ذات جاذبية عالية.
إلى جانب ذلك، يشكل التخطيط الذكي لمواقف السيارات عنصرًا حاسمًا، عبر الاعتماد على معطيات دقيقة حول عدد السيارات وأنماط استعمالها. بهذه المقاربة، يتحول النقل الجهوي من كلفة مالية إلى محرك اقتصادي يحرّك الاستهلاك والاستثمار.
من المدينة إلى المنطقة الحضرية الكبرى
القوة الحقيقية للنقل الجهوي تكمن في تغيير العقليّة الحضرية. فالمستقبل لم يعد للمدينة المنفصلة، بل للمنطقة الحضرية المتصلة. في هذا الإطار، تصبح بنسليمان امتدادًا طبيعيًا للدار البيضاء، كما هو الحال اليوم مع أحياء كانت تُعتبر بعيدة في السابق.
هذا التحول ينعكس مباشرة على قرارات السكن والعمل. فحين تتوفر شبكة نقل فعالة، يصبح العيش على بعد ساعة خيارًا منطقيًا، لا اضطرارًا. وهو ما يوسّع سوق الشغل، يخفف الضغط العقاري، ويرفع جودة العيش.
نحو أكبر كتلة حضرية في إفريقيا؟
إذا تم تطوير النقل الجهوي ضمن رؤية شمولية، يمكن للدار البيضاء أن تقود كتلة حضرية تمتد تدريجيًا نحو الرباط، مشكلة مجالًا حضريًا موحدًا يضم نصف سكان البلاد وينتج قرابة نصف اقتصادها. هذا النموذج، المرتبط بالقطار فائق السرعة نحو طنجة، فاس–مكناس، مراكش وأكادير، يعيد رسم الخريطة الذهنية للمغرب.
في هذه الحالة، لا تعود المدن البعيدة بعيدة في المخيال الجماعي، بل مدمجة في منظومة واحدة، حيث يُقاس القرب بالزمن لا بالجغرافيا.
التحدي الحقيقي… الحوكمة والتخطيط
رغم الإمكانات، يبقى مؤشر الربط والتنقل إحدى نقاط الضعف البنيوية في السياسات الحضرية. فالنقل يصنع السلوك، والسلوك يصنع الثروة. دون تخطيط مجالي طويل الأمد، تقوده نخب محلية قادرة على التفكير لعقود، سيظل النقل الجهوي مشروعًا تقنيًا محدود الأثر.
الجواب عن سؤال: هل ينجح القطار الجهوي RER في تحويل الدار البيضاء إلى أكبر كتلة حضرية في إفريقيا؟ يظل مشروطًا بالرؤية. فإذا كان النقل مجرد خطوط، فالنتيجة محدودة. أما إذا كان أداة لإعادة تشكيل المجال والسلوك والاقتصاد، فإن الدار البيضاء مرشحة لتكون قلبًا حضريًا إفريقيًا حقيقيًا.
بقلم الصحفي يوسف سعود يتصرف



















Discussion about this post