في ظل السباق نحو تجهيز ملاعب كرة القدم التي سيستضيف فيها المغرب مباريات كأس إفريقيا للأمم و كأس العالم 2030، يتساءل الرأي العام الوطني حول هذا الاتفاق مع تصاعد الأصوات المعارضة له والادعية للاحتجاج على الميزانيات الضخمة المخصصة له، وفي هذا السياق كتب الكاتب والصحفي رشيد البلغيتي على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك تدوينة يتفاعل فيه مع هذا النقاش جاء فيها:
“في الأيام الأخيرة، صار النقاش حول الإنفاق الرياضي في المغرب يأخذ منحى متشنجا، مع تصاعد الدعوات إلى مقاطعة مباريات كرة القدم، احتجاجا على الميزانيات الضخمة التي تُرصد لبناء الملاعب وتنظيم التظاهرات الكبرى، في وقت تعيش فيه مناطق واسعة من البلاد خصاصا تنمويا وإنسانيا فادحا في الماء، التعليم، الصحة، والبنية التحتية الأساسية.. إلخ
لكن بدل أن يُفتح نقاش وطني ناضج حول الأولويات العمومية، وجد المنتقدون أنفسهم في مرمى التخوين والاتهام بالعداء للوطن، وكأن الملعب أصبح أرضا مقدسة لا يجوز المساس بها، وكأن كرة القدم تحولت إلى دين جديد له رموزه وطقوسه ومريدوه وفوزي لقجع نَبِيُه.
في كل الدول، لكرة القدم دور رمزي ووظيفي: تعزيز اللياقة، بناء الروح الجماعية، وتحقيق الفخر الوطني. لكن حين تُرفع الملاعب إلى مرتبة التقديس، وتُستعمل كأساس لشرعية سياسية أو غطاء لأزمة اجتماعية، يصبح الأمر انزلاقا خطيرا في معنى المواطنة وفي وظيفة الدولة.
لقد تم نقل مفهوم الانتماء الوطني من المدرسة والمستشفى ومختبر البحث العلمي المغربي، إلى العشب الأخضر والمدرجات. صار الانتصار في مباراة يُقدم كدليل على “نهضة الوطن”، بينما الأحياء المهمشة التي ينحدر منها بعض اللاعبين أنفسهم تظل غارقة في الحرمان.
بهذا الشكل، يُعاد تعريف “حب الوطن” في اتجاه واحد: التشجيع، التصفيق، الهتاف، هلا هلا هلا لمغاربة سبوعة ورجالة.. لا النقد، لا المطالبة بالعدل، ولا السؤال عن أين تذهب أموال الشعب.
الإنفاق الرياضي ليس في حد ذاته خطأ. المشكل هو غياب التوازن بين الرمزي والمادي. حين يُصرف على ملعب واحد ما يكفي لتجهيز مستشفيات طاطا وتنجداد وتنغير وزاكورة وبولمان وأزيلال وبركان وطرفاية وسيدي إفني والريش وأمزميز أو مدارس أو شبكات مياه لآلاف المواطنين، فإن السؤال لا يكون ضد الرياضة، بل من أجل العدالة في توزيع الثروة الرمزية والمادية.
إن الملاعب، في منطق السلطة، تؤدي وظيفة سياسية ناعمة: إنها تصنع الإجماع المؤقت، وتُخدر آلام الفقر، وتخفي صورة “المغرب القاعد” !
الرياضة هنا تُستخدم كـ”مخدر جماعي” يُزين مشهدا هشا في العمق. إنها ترويض جديد للعاطفة الوطنية عبر صور الجماهير والأعلام والدموع، لا عبر السياسات العامة التي ترفع من كرامة المواطن.
حين يُتهم من يدعو إلى مقاطعة المباريات أو ينتقد حجم الإنفاق الرياضي بأنه “عدو للوطن” أو “محبط للروح الوطنية”، فنحن أمام تحويل رمزي خطير: تحويل الدولة من مجال للمساءلة إلى كيان مقدس لا يُسأل.
الملاعب هنا ليست سوى الوجه الجديد لتلك القداسة القديمة التي تحيط بالسلطة، لكنها هذه المرة أكثر نُعومة وجاذبية، لأنها ترتدي قميص المنتخب وتتكلم لغة الجماهير.
لكن النقد ليس عداء، والمساءلة ليست خيانة. الذين يطرحون سؤال الأولويات لا يكرهون كرة القدم، بل يحبون أن تُلعب في بلد عادل، لا في بلد تُبنى فيه مدرجات جامعة الكرة وتُهدم فيه مدرجات جامعة العلم.
الروح الوطنية ليست في الصراخ من أجل هدف في مرمى الخصم، بل في الصراخ، في المظاهرات السلمية، ضد خصم أخطر هو الفقر والجهل.. من أجل عدل في توزيع الماء في الجبال، وإطفاء الحرائق في الواحات ومن أجل مستشفى يليق بأبناء عين دريج وفم الحصن وخميس الزمامرة، ومن أجل جامعة تفتح آفاقا لا أبواب بطالة.
أن يحب الإنسان بلده، لا يعني أن يقبل كل ما يُفعل باسمه. بل أن يسأل ويحاسب ويقترح ويقاوم الصمت.
قد تُبهرنا الملاعب الجديدة وتسعدنا لحظات النشيد الوطني في كأس العالم:
– منبت الأحرار
مشرق الأنوار
منتدى السؤدد وحمـاه
…
لكن الأحرار لا ينبتون في عشب الملاعب
الأحرار ينبتون من طرح السؤال الصعب في زمن المتاعب
الأحرار لن ينبتوا إذا لم نطرح السؤال :
“لمن تُبنى هذه الملاعب؟ وعلى حساب من؟”
إذا لم نطرح هذا السؤال، فإننا نشارك في إخفاء الحقيقة خلف العشب المصقول.
حين يصبح صبغُ المدرجات في ملاعب الرباط أهم من تبليط المنعرجات المؤدية للقرى حيث تموت الحوامل و”يُقطع الصباط”، وحين تصبح المباراة أهم من المدرسة، والفرجة أهم من العدالة، نكون قد دخلنا فعلا زمن القداسة الرياضية، حيث تُغسل كل الخطايا بالتصفيق، ويُطلب منا أن نطيع بدل أن نفكر.
زحام البلغيتي تدونته قائلا: لن نطيع؛ نحن مواطنون فابحثوا، في مكان آخر، عن القطيع!!
Discussion about this post