في ساعات الصباح الأولى من يوم الأربعاء، وبينما كانت شمس فبراير الخجولة تحاول فرد أجنحتها على أسطح مباني المنطقة الصناعية المجد بحي العوامة في طنجة، كان الدخان الكثيف قد سبقها إلى السماء. وأرسل إشارات خطر إلى كل من في الجوار.
ساحة للهلع
عند السابعة صباحا وبعد دقائق الفجر الأولى؛ دوى صوت انفجارات متتالية فاجأت العمال الذين كانوا على وشك بدء يوم جديد في معمل لصناعة الأحذية البلاستيكية بالمنطقة.
سرعان ما تحولت أزقة المنطقة إلى مسرح للهلع، وبات المشهد وكأن ساحة حرب تستقبل دوي الانفجارات. وتدافعت مجموعات من العمال والساكنة القريبة وهم يحاولون استيعاب ما يجري.
وصارت النيران، كأنها وحش جائع، التهمت أجزاء كبيرة من المصنع، قبل أن تمتد شرارتها إلى معمل مجاور لم يكن قد أوقف نشاطه بعد. حاول البعض الهرب، بينما ظل آخرون عالقين في الداخل، محاصرين بأعمدة الدخان السام.
وفي قلب المشهد، كانت صفارات سيارات الإطفاء والإسعاف تمزق سكون الصباح وهدوءه، معلنة بداية معركة أخرى ضد اللهب. وهرعت فرق الوقاية المدنية إلى المكان. وعملت بكل ما أوتيت من قوة للسيطرة على الحريق الذي بدا عصيًّا على الإخماد، فيما كان رجال الإسعاف يحاولون إنقاذ المصابين الذين أنهكهم الاختناق.
هذا الحادث الدامي أعاد إلى الواجهة الجدل القائم حول تواجد المصانع داخل النسيج الحضري. وهو ما يفاقم معاناة الساكنة التي تعيش في جوار مصانع لا تتوفر في كثير من الأحيان على تدابير السلامة الكافية.
منطقة غير صالحة إطلاقا لممارسة النشاط الصناعي
وفي هذا السياق، عبرت ارحيمو اللهري، مسيرة وصاحبة شركة “تيكنبليتيكس ماروك”، عن استيائها من وضع المنطقة الصناعية المجد. واعتبرت أن تواجدها وسط منطقة سكنية “غير منطقي تماما، كما أن تصميمها الداخلي يزيد من خطورة الوضع”.
وأكدت اللهري، في تصريح لـ”إيكو بريس”، على أنه “يجب ألا تكون المعامل متلاصقة بهذا الشكل. بل من الضروري أن تكون هناك مساحات فارغة بين الوحدات الصناعية. وذلك حتى لا تنتقل الحرائق أو الحوادث من مصنع إلى آخر”.
وانتقدت المهنية بشدة ظروف العمل داخل المنطقة. فسطرت على أن الازدحام الكبير لحافلات العمال وشاحنات نقل البضائع يعرقل السير ويجعل من المنطقة بيئة غير صالحة إطلاقًا للنشاط الصناعي.

وعد لم يوفى والمطالب مستمرة
وقالت اللهري مستنكرة: “لا أفهم كيف تم السماح من البداية بإنشاء منطقة صناعية ملاصقة لمنطقة سكنية. هذا التصميم يجب أن يُعاد النظر فيه بالكامل”.
ولفتت اللهري إلى أن السلطات سبق أن وعدت المستثمرين في منطقة المجد بمنطقة صناعية جديدة في عين دالية قبل جائحة كورونا، حيث قاموا حينها بإيداع طلباتهم. لكن المشروع تم إلغاؤه فجأة دون تفسير.
وأعربت المستثمرة عن أملها في “أن يتم اتخاذ قرارات جادة هذه المرة، لأن طنجة مازالت تتوفر على أراض شاسعة يمكن استغلالها لإنشاء منطقة صناعية حديثة وبمساحات أكبر بدلا من تركنا في منطقة غير مناسبة لا من حيث الموقع ولا من حيث البنية التحتية”.
المنطقة الصناعية سابقة للمناطق السكنية، لكن الحلول مطلوبة
ومن جهته؛ يؤكد الحسين بن الطيب، رئيس جمعية المنطقة الصناعية المجد ونائب رئيس غرفة التجارة والصناعة والخدمات بجهة طنجة تطوان الحسيمة، أن المنطقة الصناعية المجد لم تكن وليدة اليوم، بل كانت قائمة قبل ظهور الأحياء السكنية المحيطة بها.
وأضاف بن الطيب، في تصريح لـ”إيكو بريس”، أن “ما حدث هو أنه في منتصف التسعينات، تم تغيير ملامح المنطقة الصناعية. وهو ما أدى إلى انتشار المناطق السكنية في محيطها، رغم أننا لم نكن موافقين على ذلك واعترضنا عليه”.
وأشار المسؤول، الذي هو أيضا نائب برلماني عن دائرة طنجة عن حزب التجمع الوطني للأحرار، إلى أن المجد ليست مجرد منطقة صناعية، بل هي مركز تكويني. واعتبر أن مصانعها توفر فرص تشغيل لآلاف العمال، ما يساهم في تكوين اليد العاملة عبر الممارسة.
ضرورة منطقة جديدة وتعزيز تدابير الوقاية
ورغم ذلك، يضيف الجمعوي، فإن “مطلب إنشاء مناطق صناعية جديدة بعيدا عن النسيج الحضري ظل حاضرا باستمرار في مطالبنا”. مشددا على ضرورة تحويل المجد إلى مستودعات لتخزين السلع بدلا من استمرار النشاط الصناعي فيها.
وطالب بن الطيب “بتعزيز تدابير الحماية والوقاية داخل المناطق الصناعية”. ولفت إلى أنه “سبق لنا أن طرحنا هذا الموضوع داخل البرلمان. كما أننا طالبنا بإنشاء مركز حياة داخل المنطقة الصناعية المجد يضم حضانة لأطفال الأمهات العاملات. إضافة إلى توفير حافلات نقل تعمل طيلة اليوم لنقل العمال إلى المناطق الصناعية الجديدة”.
وثمن بن الطيب جهود السلطات المحلية. مشيرًا إلى أن والي الجهة كان حاضرًا منذ الدقائق الأولى للحريق. كما وجه شكره إلى فرق الوقاية المدنية التي بذلت جهودا جبارة للسيطرة على النيران وإنقاذ المصابين.

منطقة صناعية حيوية ولكنها لم تعد مناسبة
ومن جهته استهل ياسين العرود، رئيس الجمعية المغربية لصناعة النسيج والألبسة لجهة الشمال والكاتب العام لجمعية المنطقة الصناعية المجد، حديثه لـ”إيكو بريس” بالإشادة بتدخل السلطات، على رأسهم والي الجهة وعمدة المدينة، وفرق الإطفاء.
وأشار العرود إلى أن المنطقة الصناعية المجد تأسست في بداية التسعينيات بأوامر من الملك الراحل الحسن الثاني. وكان الهدف منها دعم قطاع النسيج والخياطة.
وأضاف أنه رغم انطلاقتها المتواضعة، أصبحت المنطقة لاحقًا من “أهم المناطق الصناعية في إفريقيا. إذ تحتضن أكثر من 32 ألف عامل وعاملة. وتلعب دورًا محوريًا في الاقتصاد المحلي والوطني، بل وحتى العالمي، حيث تعتمد عليها كبرى العلامات التجارية العالمية في التصنيع”.
ورغم هذا النجاح، يرى العرود أن الوقت قد حان لرحيل المنطقة الصناعية إلى مكان أكثر ملاءمة. “فمع النمو السكاني والتوسع العمراني الكبير في محيطها، بات من الواضح أن استمرار المصانع وسط النسيج السكني لم يعد مقبولا”.
اختناق مروري وفوضى تؤثر على الإنتاج
وسطر العرود على أن “إحدى المشكلات الكبرى التي تواجه المستثمرين في المنطقة الصناعية المجد هي الازدحام المروري الخانق. فقد أصبح الدخول إلى المصانع والخروج منها يشكل تحديا يوميا. حيث تختلط شاحنات التصدير بحافلات نقل العمال، مما يؤدي إلى عرقلة شديدة في أوقات الذروة.
وقال العرود: “أحيانا، قبل أن نتمكن من دخول مصانعنا، نضطر إلى التواصل مع الحراس لسؤالهم عمّا إذا كانت الطرقات سالكة أم أن هناك اختناقًا مروريا. والأمر أصبح كابوسًا مرعبًا يعطل الإنتاج ويؤثر على سلاسة العمل”.
أنشطة صناعية غير ملائمة تزيد الوضع تعقيدا
وإضافة إلى خطر الحرائق والتكدس السكاني، يضيف المتحدث، فإن بعض الأنشطة داخل المنطقة الصناعية المجد تُفاقم من المشاكل البيئية والصحية. ومنها:
مذابح الدجاج التي تسبب ضوضاء ليلية وروائح كريهة. إضافة إلى ورشات النجارة ومخازن الحديد والأسمنت التي تؤدي إلى انبعاثات مزعجة.
وذلك إلى جانب “مصنع السمك الذي يلوث الفرشة المائية. ومعامل الصباغة وغسل الملابس التي تشكل تهديدا بيئيا بسبب النفايات الكيميائية. وكذاك مخزن قنينات الغاز الذي يمثل خطرا أمنيا كبيرا”.
ضرورة إحياء مشروع “نسيج ميد” وتوفير بدائل عملية
وأوضح المهني أن هذا الوضع استدعى في وقت سابق إطلاق مشروع “نسيج ميد” في أربعاء عين دالية خلال ولاية الوالي اليعقوبي. و”كان من شأنه توفير بديل مثالي، حيث تقدم أكثر من 600 مستثمر بطلبات للاستفادة منه، غير أنه لم يرَ النور لأسباب غير واضحة”.
وبناء على كل ذلك؛ دعا العرود إلى إعادة طرح مشروع “نسيج ميد” كحل استراتيجي. وذلك مع ضرورة فتح نقاش جاد بين رجال الأعمال والسلطات من أجل الوصول إلى حل توافقي يضمن انتقالا سلسا للمنطقة الصناعية إلى موقع جديد أكثر أمانا وتنظيما.
وأكد الجمعوي أن “والي الجهة يشاركنا هذا الوعي، ويعمل على إيجاد حلول عملية. خاصة وأن الزوار الأجانب الذين يتوافدون على المنطقة الصناعية يُصدمون بموقعها غير المناسب وسط الأحياء السكنية”.
لجنة التفتيش تراقب الوضع الصحي والسلامة المهنية
وفي خطوة نحو تحسين الوضع داخل المنطقة الصناعية، كشف العرود أن ولاية الجهة قامت مؤخرا بإنشاء لجنة مشتركة تضم عدة إدارات لمراقبة معايير السلامة والصحة المهنية داخل المصانع.
وتابع: “وقد شرعت هذه اللجنة، صباح اليوم الجمعة، في تنفيذ زيارات تفتيشية مكثفة. وذلك بهدف ضمان احترام المعايير المعمول بها وحماية العاملين”.
وشدد العرود على ضرورة “الإسراع في اتخاذ قرارات حاسمة. فاستمرار الوضع الحالي لا يخدم لا المستثمرين ولا السكان. وحل هذه الإشكالية بات مطلبا ملحا لضمان بيئة صناعية أكثر أمانا وفعالية”.
Discussion about this post