إيكو بريس من تاونات –
هنا غفساي، التابعة لإقليم تاونات، هنا تستيقظ النساء باكرا كل يوم، كأنهن في سباق مع شروق الشمس، سرعان ما يبدأن يوما شاقا تتقوس فيه ظهورن كما تتقوس المناجل التي يرعين بها نباتا، ينزلنه منزلة أبنائهن الذين خرجوا ذات يوم من أرحماهن، حتى وإن علموا أن كل هذه العناية بنبات الكيف لا تسمن ولا تغني من جوع، فصارت أحوالهن صورة لا لبس فيها لتناقض صارخ بين شعارات الدولة في تمكين المرأة وتمتيعها بحقوقها، وبين واقع لا يرتفع تُحرم فيه نساء قرى إقليم تاونات من أبسط الحقوق الأساسية، وعلى رأسها التعليم والتكوين والشغل والدخل القار، رغم أن الدستور في الفصل 31 ينص صراحة على أن الدولة تعبأ كل إمكاناتها لأجل تمكين المواطنين على قدم المساواة، من السكن اللائق والشغل والدعم للتشغيل الذاتي والحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة.
أحاديثهن بلغة جبلية تتناهى إلى الأسماع كعزف ناي حزين، وهن يروين قصة معاناة لا تنتهي في ظل تعدد مسؤولياتهن، ما بين السهر على القيام بأشغال المنزل المرهقة كعجن الخبز، وتنظيف الملابس بالأيدي، وبين الإشراف على أعمال الحطب، والفلاحة والرعي والسقي في أحيان كثيرة، بعدما زجت هذه النبتة العاقة بأزواجهن، وأبنائهن الذكور، في غياهب السجن، وتركتهن يحاربن حياة قاسية بين أنياب الجبال بلا مُعين.
خردالة من مصدر دخل إلى طريق للسجون
حين كانت التساقطات المطرية وفيرة، كانت زراعة العشبة البلدية وسيلة مدرة لدخل محترم، يكفي السكان لحاجياتهم من الطعام والملبس والسفر وتدريس أبناءهم، أما اليوم وبسبب التغييرات المناخية، وتوالي سنوات الجفاف، وغياب تام للبرامج الحكومية، وكسل ملحوظ للسلطات الإقليمية التي تستكثر عليهم بناء روض للأطفال لا تتعدى مساحته 30 مترا مربعا، ومشاريع جد متواضعة في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لكن تلك البنايات التي لا يعرف كم صرفت عليها من ميزانية المال العام، وليست هناك تقارير الجدوى والمردودية يعلم بها الرأي العام المحلي والوطني.
أما عامل إقليم تاونات، فلا يكاد يعرفه سكان هذا الإقليم الذي يقارب تعداد سكانه مليون نسمة، ويضم مجاله الترابي أكثر من 45 جماعة قروية، موزعة على تضاريس جغرافية متنوعة وغنية بالفرشة المائية، لكن عددا من القرى في ربوع الإقليم تبدأ معاناتها مع العطش ابتداءا من شهر مارس، في ظل حضور جد محتشم للسلطات الإقليمية عبر بعض الشاحنات وجرارات صهاريج حديدية توزع الماء على المحتاجين، في مشهد يكرس صورة الفقر في بلد يسارع عاهل البلاد الملك محمد السادس لانتشاله من القاع، عبر أوراش تنموية مفتوحة لما فيه مصلحة الوطن والمواطن.
وفي خضم الإهمال والإقصاء ولا مبالاة المسؤولين الإقليميين المتعاقبين والمجالس المنتخبة، وانعدام بدال اقتصادية في الصناعات الغذائية رغم ما يتوفر عليه الإقليم من رأسمال بشري، وشريحة واسعة من الفئة النشيطة، فقد شكلت العشبة البلدية المعروفة باسم خردالة، وسيلة الناس لانعاش نشاطهم الاقتصادي، وكسب دخل يقيهم شظف العيش، وشقاء فلاحة يدوية لإنتاج حاجياتهم من الغذاء، إذ تواجههم إشكالات عويصة إذا ما أرادو تسويق منتجاتهم الفلاحية، والسبب الرئيسي تدهور الحالة الطرقية في عدة جماعات مما يرفع تكلفة النقل بالنسبة لأي منتوج فلاحي ققد يكون موجه للبيع في المدن المجاورة.
تكشف مليكة ورحمة أن نبتة الكيف لم تجلب للمنطقة وأهاليها إلا الويلات، ذلك أن نصف رجالها اعتادوا تدخينها ولا يستطعيون لها اليوم فراقا، في الوقت الذي يقبع النصفُ الثاني خلف القضبان بتهمة زراعتها، على الرغم من سريان تقنينها في البلاد منذ أكثر من سنتين. وتشيران إلى العذاب الذي تسومه زراعة الكيف أهالي المنطقة مقابل مداخيل هزيلة لا تتعدى مليون سنتيم في السنة. وهو ثمن بخس لا يغطي تكاليف الحياة من المأكل والملبس، ومصاريف الدراسة والتطبيب والعناية بالماشية على ندرتها، ويغصب الكثيرات، ومنهن مليكة على العمل بصفة متقطعة مع أهالي المنطقة، في هذه التجارة الخاسرة، مقابل 50 درهما في اليوم.
عيش تحت خط الفقر
“عندنا الله والجوع” بثلاث كلمات تلخص مليكة الفقر المدقع الذي يجثم على معظم أهالي منطقة غفساي، مستغربة بنبرة فيها مسحة من الحزن المختلط بالحرقة، إقصاء الفقراء في منطقتهم من الإفادة من برامج دعم العالم القروي بالمواد الغذائية، والأسمدة الزراعية، وأعلاف الماشية، والجرارات، وغيرها، قبل أن تستنكر انتفاع الأغنياء وحدهم من هذا الدعم دون أي وجه حق، منبهة إلى تقصير المسؤولين تقصيرا شديدا في تنفيذ توجيهات الملك محمد السادس وتوصياته المتعلقة بتنمية المناطق القروية في الخطابات الملكية.
حكيمة التي يوحي كلامها البليغ بأنها خبرت الحياة كثيرا تضع المسؤولين عن التنمية القروية في دائرة المساءلة مجددا جراء غياب طريق معبدة تفك عزلة المنطقة، وانتفاء أي أثر لمبادرة محاربة الأمية فوق أراضيها، وافتقارها إلى دار الصانعة كذلك، والتي من شأنها أن تساهم في صقل مهارات النساء القرويات، وفتح آفاق أفضل في وجوههن .
السلطات والمناخ تحالفا ضد مصالح السكان
في غفساي حتى المناخ أدار ظهره للفقراء بعدما شحت الأمطار في السنوات الأخيرة، ليتفاقم بذلك مشكل ندرة المياه ويعرقلَ مساعيهم إلى زراعة بديلة عن الكيف، وذلك مع تضييق السلطات الخناق على حفر الآبار، فعوض أن تمد السلطات أنابيب المياه إلى سقايات عمومية وصهاريج إلى الدواوير العزولة، فإن رجال السلطة يلاحقون الباحثين عن الماء لأجل سقي أبناءهم وزراعتهم المعيشية! وحتى إذا هطلت الأمطار فجأة في غير وقتها أتلفت المحاصيل وعلى رأسها القمح والتين، وتركتهم يواجهون قدرهم مع نبتة عاقة، لا ذاكرة لها سرعان ما تنسى عرفان من أفرط في الإحسان إليها، حيث حولت حياتهم من رخاء في سنوات سابقة، إلى بلاء في سنوات لاحقة.
والحال كهذه، تتعلق آمال النساء في غفساي بأن يقطعن شعرة معاوية مع زراعة الكيف بمناجلهن التي لربما تتراءى في عين المسؤولين ناعمة للغاية، ويستبدلن الأدنى بما هو خير، لأنهن لم يحصدن من هذه الزراعة على امتداد السنوات إلا المأساة ولا شيء إلا المأساة… فهل تتحرك وزارة الداخلية وتنزل بثقلها إلى جانب قطاعات وزارية أخرى، لرفع الإهمال والتهميش عن إقليم غني بثرواته الطبيعية ومؤهلاته السياحية والزراعية.
رابط الفيديو بالصوت والصورة من قلب غفساي إحدى أكبر الدوائر :