كتب الباحث في الحركات الاجتماعية مرتضى الأندلسي، مقالا على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك عنوانه ب”الفساد… مرض الدولة وجرح المجتمع”، هذا المقال الذي يأتي في سياق غليان يعرفه الرأي العام الوطني بعد فضيحة “تسريبات مجلس أخلاقيات الصحافة” الذي هز الوسط الصحافي والسياسي، وتعميما للفائدة نعيد نشر المقال لكل غاية مفيدة مع عموم قراء صحيفة إيكو بريس.
الفساد…مرض الدولة وجرح المجتمع
الفساد الذي نرفضه لكن نمارسه… حين يصبح التطبيع هو القاعدة ومحاربته مجرد استثناء.
يتصاعد في المغرب شعور عام بأن الفساد لم يعد مجرد انحراف أو ممارسة معزولة، بل أصبح منظومة متكاملة تشكل جزءًا من بنية الحكم والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، إنها منظومة تتغذى من تزاوج خطير بين المال والسلطة، ومن تراجع الوازع الأخلاقي في سياق مادي قاس، ومن قناعة عامة مفادها أن النجاح لا يصنعه القانون بقدر ما تصنعه العلاقات والامتيازات… ومع الوقت، تحولت هذه المنظومة إلى واقع مواز تتعايش معه الدولة والمجتمع معاً، كلٌّ بطريقته.
لم ينشأ هذا الفساد في فراغ، بل في بيئة اختلط فيها السياسي بالاقتصادي، وتراجعت فيها مؤسسات الوساطة، وازدادت فيها الهوة بين القانون والممارسات الفعلية، حينها تصبح السلطة وسيلة لحماية المصالح الخاصة، ويصبح المال مدخلاً للتأثير في القرار العمومي، هنا تتشكل نخبة صغيرة قادرة على التحكم في الفرص والثروات، بينما يُترك المجتمع في مواجهة واقع لا يخضع لمنطق المنافسة العادلة ولا القانون، حيث يتقدم منطق الشبكات على منطق المؤسسات، ويتحول القانون إلى إجراء شكلي قابل للتجاوز، ويصبح من يملك النفوذ أقرب إلى مصدر الحق من النصوص نفسها.
لكن الأخطر الأكبر من وجود هذه المنظومة المعقدة بشبكة العلاقات هو الإستسلام أو التطبيع المجتمعي معها، فبعد عقود من الوعود غير المتحققة، وغياب المحاسبة الجدية، وارتفاع تكاليف العيش، تشكلت قناعة عامة بأن الفساد قائم وسيظل قائمًا، وأن الدولة مهما أعلنت غير قادرة على تفكيك بنيته العميقة، أو كمستفيدة منه… وهكذا، بدل أن يُنظر إلى الفساد باعتباره انحرافًا يجب مقاومته، أصبح يُتعامل معه باعتباره الطريق الواقعي لضمان الحق، ولو كان حقًا وهميًا… فالموظف يتفهم التسهيلات، والمواطن يُبرّر التقهويات، والمقاول يعتبر أن الالتزام بالقانون مخاطرة غير محسوبة…
بهذا المعنى، لم يعد الفساد مجرد فعل، بل ثقافة تُشكّل سلوكيات الأفراد واختياراتهم اليومية، كلٌّ يندد به نظريًا، لكنه يسعى عمليًا يسعى إلى قضاء حوائجه أو ضمان نصيبه منه لأنه لا يرى بديلاً واقعيًا آخر، وهكذا يتحول المجتمع، بدرجات متفاوتة، إلى شريك غير مباشر في إعادة إنتاج المنظومة نفسها التي يحاربها، وهذا هو الخطر الأكبر حيث تراجع الإحساس الجماعي بالمسؤولية العامة، وتآكلت الثقة في قيمة النزاهة والشفافية، أصبح الفساد هو القاعدة التي يفهمها الجميع بدل أن تكون استثناء يدان من المجتمع والدولة.
غير أن هذه الصورة، رغم قتامتها، ليست قدرًا حتميا علينا، فالتطبيع مع الفساد ليس نتيجة حب له، بل نتاج الإحساس بالعجز وفقدان البدائل، والمجتمع الذي يقبل به يفعل ذلك اضطرارًا لا اختيارًا، لأنه لم يُمنح فرصة حقيقية ليعرف كيف تبدو دولة تُدار بالقانون والشفافية، أو سوق يُحكمه الإنصاف، أو إدارة تُكافئ النزاهة بدل العلاقات، لذلك فإن أي مسار إصلاحي جدي يجب أن يبدأ من إحياء الثقة، لا فقط من محاربة المفسدين، فالقانون وحده لا يكفي إذا ظل الناس مقتنعين بأن لا أحد يطبقه، ومحاربة الفساد لا تنجح إذا لم يُفتح للمواطن طريق نظيف وعملي للعيش والنجاح… فتفكيك شبكات زواج المال والسلطة ليس مسألة تقنية، بل مسألة تتعلق بمستقبل الدولة نفسها، فالمغرب بحاجة إلى نموذج يعيد الاعتبار للمؤسسات، ويفصل بوضوح بين المصالح العامة والخاصة، ويجعل النزاهة خيارًا واقعيًا لا مجرد شعار، وبحاجة أيضًا إلى خطاب يعيد الأمل، لأن الأمل هو العدو الطبيعي للتطبيع، وهو الشرط الأول لعودة القيم التي غمرتها سنوات طويلة من اللامساواة والتهميش ووتوزيع الامتيازات على الأقلية.
الوطن لا ينهض بالذين يملكون النفوذ فقط، بل بالذين يملكون الحق، ولا يستقر بقوة الشبكات، بل بقوة المؤسسات، ولا يُبنى بامتيازات قلة، بل بثقة مجتمع كامل يشعر أن القانون يحميه وأن مستقبله لا يباع ويشترى.
مستمرون… كل من موقعه

















Discussion about this post