مدينة الفنيدق والهجرة السرية كيف تحولت من جنة للتهريب إلى قبلة للهروب
مدينة الفنيدق والهجرة السرية كيف تحولت من جنة للتهريب إلى قبلة للهروب
إيكو بريس زكرياء بنعلي –
الفنيدق والهجرة السرية – التسمية والموقع الجغرافي
الفنيدق في الدارجة المغربية هي تصغير لكلمة فندق، والذي هو بمثابة الخان والنزل، وتقول الحكاية أنه كان يوجد بالمدينة قديما فندق يَحُطُّ به الرِّحَالَ كلُّ من مر على المدينة ذاهبا أو عائدا من الضفة الأخرى.
كما يطلق عليها سكان المنطقة اسم “كاستييخوس” وهي عبارة إسبانية تعني القلعة البعيدة.
وتقع مدينة الفنيدق في موقع إستراتيجي أقصى شمال المغرب والقارة الأفريقية، على بعد سبع كيلومترات فقط عن مدينة سبتة المحتلة.
وتبعد عن “جبل موسى” نسبة إلى موسى بن نصير، بكيلومترات قليلة، حيث يواجه مباشرة وعلى مرمى نظر “جبل طارق” نسبة إلى طارق ابن زياد، والموجود في الضفة الأخرى على شواطئ إسبانيا، والتابع إداريا لسيادة التاج البريطاني.
حيث كان هذا المضيق محطة انطلاق فتوحات طارق ابن زياد إلى أرض الأندلس بتفويض من قائده موسى ابن نصير، خلال فترة الحكم الأموي.
الفنيدق مركز فتوحات عكسية ورواج اقتصادي كبير
لم يكن يعلم طارق ابن زياد حينها أن هذا المضيق سيتحول إلى معبر لفتوحات عكسية، عتادها السلع المهربة.
وبدأت قصة “التهريب المعيشي” للسلع، منذ عهد الحماية، إذ كانت سبتة نقطة لخروج السلع المختلفة الى المناطق المحيطة بها، خصوصا مدينتي تطوان وطنجة، ومنهما إلى باقي مدن المغرب.
يقول محمد اشرايح 58 عاما، حمال بضائع سابق بين بليونش على الحدود الغربية لسبتة و بين مدينة طنجة، إنه في فترة الحماية الإسبانية كان بعض الجنود الإسبان الذين يشتغلون بالمدن الشمالية، يقومون بنقل العديد من المنتجات المغربية لبيعها بمدينة سبتة، كالأواني النحاسية والفضية المصنوعة يدويا من طرف المعلم المغربي.
بالإضافة إلى أطباق الخبز المصنوعة من “العزف”، ومصنوعات خزفية أخرى كالطاجين، ويبيعونها بمدينة سبتة، في المقابل يشترون من المدينة السليبة البسكويت، والمعلبات الغذائية، والجبن، والزبدة الهولندية، والقهوة، ليبيعُوها بالمغرب.
بدوره، يحكي السي أحمد اللنجري 60 عاما، تاجر سابق للملابس في الفنيدق، و هو من أبناء قرية أنجرة المجاورة، أن هذا النمط التجاري القائم على تهريب السلع من وإلى سبتة، استمر يتنامى بشكل بسيط، إلى حدود نهاية سبعينيات القرن الماضي.
حيث ستعرف المنطقة زخما كبيرا غير متوقع يضيف “السي أحمد”، بعد الهجرة الكبيرة للأسر التي انطلقت من مدن الريف والقصر الكبير، والقرى والبوادي الشمالية المجاورة، هربا من الجوع والظروف الصعبة نحو ظروف أفضل، واستقرت بالفنيدق والمضيق، والشريط المحادي لمدينة سبتة.
ساهمت هذه الهجرة ومعها ظهور تجارة “الحشيش”، في ارتفاع وتيرة التهريب بشكل غير مسبوق، و مع النمو الكبير الذي عرفه هذا النموذج الاقتصادي المربح جدا، ازدهرت الحياة في مدينة الفنيدق وأصبحت وجهة سياحية وتجارية مفضلة للمغاربة.
وهكذا أصبح يتوافد عليها عشاق البسكويت، والحلويات الإسبانية، والمواد الغذائية المعلبة، ومنتوجات النظافة الشخصية، و الملابس المستعملة عالية الجودة أو ما يعرف ب(البال) بكثرة في العطل الدينية والوطنية، وخاصةً في عطلة الصيف.
نقطة التحول من جنة الى جحيم
16 مارس 2020، هو التاريخ الذي لن ينساه سكان الفنيدق، كيف لا و هو التاريخ الذي سيقلب حياة أغلب أسر المدينة الصغيرة رأسا على عقب.
وفيه أعلنت السلطات المغربية و الإسبانية عن غلق معبر باب سبتة، و توقف جميع حركات التنقل دخولا و خروجا، في إطار الإجراءات الأولية التي تقررت آنذاك لمحاربة تفشي وباء كورونا.
فقبل أشهر قليلة من بداية انتشار وباء كورونا، كان المغرب قد أوقف مؤقتا نشاط التهريب المعيشي دون أن يُعلن أن هذا الإيقاف هو نهائي ولا رجعة فيه، إذ تم الإعلان أنذاك أن الإغلاق مرتبط بإجراء بعض الإصلاحات على يد إسبانيا، وأن نشاط التهريب سيعود بعد أجل غير مسمى.
لكن ظهور وباء كورونا “ساعد” المغرب على طي هذا الملف الأسود، وإيقاف التهريب بشكل نهائي، والذي كان يفوت على خزينة الدولة ملايير الدراهم، المفترض استخلاصها كمداخيل جبائية في حال دخول تلك السلع بطرق قانونية.
ولعل هذا القرار كان يحمل في طياته ضمان حماية القطاع المهيكل والاقتصاد الوطني، إلا أن الحلول الاقتصادية والاجتماعية لم تكن في مستوى هذا القرار.
لتقريب الصورة حول حجم الرفاه الذي كانت تعيشه ساكنة بلدة الفنيدق المتاخمة لسبتة المحتلة، يروي حمزة دبون 31 عاما، الذي كان يشتغل في حمل ونقل البضائع على كتفه في معبر تارخال الحدودي بين المغرب وإسبانيا: “لقد عشنا أيام ذهبية، لكن لا أحد منا كان يتوقع أبدا أن ينتهي كل شيء في لمح البصر”.
يضيف حمزة دبون الذي كان يشتغل حمالا للبضائع منذ أن كان عمره 17 سنة، “كنا نجني أكثر من 100 دولار في اليوم الواحد كمتوسط دخل، قد تزيد وتنقص حسب نوعية السلع التي نحملها، وحسب فطنة الشخص وقدرته، وعدد مرات الدخول والخروج في اليوم الواحد، فيما كانت النساء تجني ما بين 40 و 60 دولارا وهو مبلغ محترم بالنسبة إلى تكلفة العيش في تلك الفترة.
يسترجع حمزة دبون في حديثه لصحيفة إيكو بريس، بغير قليل من الأسى والحسرة: “كنا نعيش في الجنة دون أن نعلم، إلى أن تحولت الفنيدق بعد هذا القرار إلى مدينة أشباح، حيث خلف القرار آلاف العاطلين والأسر المدمرة والمفككة، ما نجم عنه انتشار سلوكيات منحرفة لم نكن نسمع بها إلا نادرا، كالسرقات والنشل في الشارع، وتكاثر أعداد المدمنين ومتعاطي المخدرات”.
في المقابل؛ يردف المتحدث نفسه، والذي يجسد رأي شباب آخرين من أقرانه، “لم تقدم لنا السلطات بدائل معقولة، لكي نندمج في سوق العمل من جديد، اللهم بعض الوظائف القليلة الموجهة بالخصوص إلى النساء من الأسر الهشة، بأجور شهرية هزيلة كنا نحصلها في يوم عمل واحد فقط، أيام كانت الديوانة (معبر الحدود) مفتوحة في الاتجاه المغربي والإسباني”.
يوم الهروب الكبير
بعد هذا التحول المفاجئ في الحالة الاجتماعية والاقتصادية وانتشار الفقر والبطالة بشكل كبير، دب اليأس والإحباط في نفوس شباب الفنيدق والمناطق الحدودية المحيطة بها، بالإضافة إلى أبناء مدينة تطوان وما جاورها.
بدأت المدينة تشهد بوادر احتقان شعبي في الشهور الموالية مع نفاذ المدخرات التي كان يعيش منها الأهالي طيلة فترة الإغلاق بسبب كورونا، ما بعدها، لكن في مطلع سنة 2021 اندفع الناس بشكل عفوي للخروج في مظاهرات شعبية، تطالب بإعادة فتح المعبر الحدودي من جديد، أو توفير بديل اقتصادي منتج.
ثم سرعان ما بدأت تنتشر فكرة الهجرة السرية (الحريك) إلى إسبانيا انطلاقا من بوابة سبتة بين صفوف الشباب والمراهقين، باحثين عن ظروف حياة أفضل، حيث يؤكد معظمهم أن الدافع الرئيسي هو “الكرامة” و “التقدير” المفقود من المسؤولين والمؤسسات مما جعل شريحة كبيرة تفقد الثقة.
لكن تزامنت هاته الأجواء مع الفترة التي كانت تعرف توترا دبلوماسيا متزايدا بين المغرب وإسبانيا، على إثر استضافة مدريد زعيم جبهة البوليساريو الانفصالية إبراهيم غالي يوم 24 أبريل 2021 بهوية مزورة.
وقد بررت وزيرة الخارجية الإسبانية وقتئذ عملية استقبال المرتزق الانفصالي غالي في إسبانيا بأنها تمت لأسباب إنسانية بحتة، وليست تعبيرا عن موقف سياسي، قياسا إلى إصابته بفيروس كورونا.
بعد هذه الحادثة بنحو 3 أسابيع فقط وبالضبط في يوم الاثنين 17 ماي 2021، عرفت مدينة سبتة حدثا استثنائيا بتدفق آلاف المهاجرين، معظمهم من المراهقين والشباب، وبعض المهاجرين من جنوب الصحراء.
وقد جاؤوا من مدينة الفنيدق سباحة ومشيا على الأقدام، بعد انخفاض المد البحري إلى أدنى مداه متجاوزين السياج البحري الحدودي، في أكبر هجرة جماعية تعرفها البلاد.
وذهبت بعض التقديرات الإعلامية الإسبانية حينذاك، إلى وجود تساهل من قبل السلطات المغربية مع تدفق المهاجرين الكثيف على سبتة المحتلة، جراء توتر العلاقات بين البلدين، منذ استقبال إسبانيا زعيم البوليساريو إبراهيم غالي.
من جانبها، ذهبت التقديرات الصحفية المغربية، إلى أن تدفق الأعداد الضخمة للمهاجرين جعل من المستحيل التحكم في أي موجة غير متوقعة كهذه.
كما شددت على أن “القوات الأمنية المغربية بذلت الجهد الكبير لتقليل أعداد العابرين، ولولا ذلك لحدثت كارثة كبرى.
و منذ ذلك الحين، تكررت باستمرار محاولات المراهقين و الشباب العبور سباحة إلى سبتة، راح ضحيتها عشرات الشباب غرقا، دون أن يصلوا إلى وجهتهم.
وكانت منشورات أصدرتها صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، حرضت في الأيام الماضية، المغاربة الحالمين بالهجرة غير النظامية على عبور سبتة بشكل جماعي، يوم 15 شتنبر الجاري.
واستنفرت هذه الدعوات التحريضية على الهجرة السرية الجهات الأمنية المختصة، ذلك أنها شرعت في تحرياتها، وسرعان ما توصلت إلى هوية الضالع وراءها واعتقلته، قبل أن تباشر معه التحقيقات.
بيد أن التجاوب معها كان له صدى واسع في الشارع المغربي، حيث تصدت السلطات في الأسبوع الثاني من شهر شتنبر الحالي، إلى عشرات الشبان المتجهين صوب المناط الحدودية شمال المغرب، وتشهد مدن طنجة وتطوان والبلدات المجاورة حملات تمشيطية، تفضي إلى إيقاف كل من يرغب في التوجه صوب مدينة الفنيدق عبر مختلف وسائل المواصلات، وتعيد إرجاعه إلى المدن القادمين منها، فيما تعاطت السلطات بكثير من الحزم والصرامة وأرسلت للمنطقة تعزيزات أمنية كبيرة من التشكيلات الأمنية المختلفة، الشرطة والدرك والقوات المساعدة لتأمين الشريط الحدودي، برا وبحرا.
اقرأ أيضا:
وصول تعزيزات أمنية إلى كاستييخو لمواجهة دعوات هجمة 15 شتنبر
أسباب غلاء أسعار الدواجن في المغرب
المغرب يسجل إصابة جديدة بجدري القردة وهذه تفاصيلها
Discussion about this post