بوعشرين يكتب… ماستر قليش أو الماستر مقابل المال نتيجة حتمية لسياسة عمومية أهملت الجامعة المغربية، في تفاعلات مع واقعة “الأستاذ” الجامعي بجامعة ابن زهر بمدينة أكادير الذي “يجمع” الأموال من خلال بيعه “للكارتونات”.. عفوا “شهادات الماستر و الإجازة”:*
توفيق بوعشرين
صاحبنا لم يفعل شيئًا سوى ربط الجامعة بسوق الشغل، وربط البحث العلمي بالبحث عن الرزق، وجعل الشواهد الجامعية وسيلة للعمل المدر للدخل.
ثمانية مليارات في حساب الزوجة المصون، ولائحة من العقارات والأملاك والأراضي تنافس ما يملكه كبار رجال المال والأعمال. وكل هذا من “مجهود” البحث و”عرق” النظرية، و”ثمار” المعرفة، و”حفريات” العلم، وبركات المناهج، و”انزياحات” القراءة والتأويل، والانفتاح على موضوعات جديدة ومقاربات جديدة ..!!
مثل الحكامة الأمنية والدراسات المقارنة وتأطير رجال ونساء المهن القضائية والأمنية لتجويد الممارسة العملية، وربط الجامعة بمحيطها السوسيولوجي والاقتصادي والريعي، حرفيًا ..!
إنها زاوية أخرى لتناول الملف الجنائي الذي يُتابع فيه أستاذ الماستر في أكادير ومن معه. وإذا كان المتهم بريئًا حتى تثبت إدانته، وأن الأصل في كل فعل هو البراءة، فإن الفضول الصحفي لا ينتظر للأسف الحكم القضائي.
لكن من زاوية الموضوع وليس المتهم، تطبيقًا لشعار: “مخاصمة التهمة لا مخاصمة المتهم”.
وبناءً عليه، لا يمكن إلا أن نطالب له ولمن معه من أساتذة ومحامين وقضاة وأمنيين بكل ضمانات المحاكمة العادلة، وأن لا يسبق الزمن الإعلامي السريع الزمن القضائي البطيء..
كما نلتمس من القضاة، جالسين وواقفين، عدم متابعة التغطيات الإعلامية التي تدور في فلك هذا الملف، وأن يركزوا فقط على ما يوجد في الملف من وثائق وحجج وأدلة واعترافات، فالقضاء يحكم بما يروج أمامه بقناعته الصميم، لا بما يروج على اليوتيوب وإنستغرام والتيك توك وما جاورهم.
الآن لنعد إلى الملف وليس إلى المتهم :
الجامعة المغربية، بحمد الله، لم تعد الفضائح مهما كانت تهزها، فهي جبل لا تهزه ريح. والجامعة المغربية ماتت منذ سنوات، وكما قال المتنبي: “ما لجرح بميتٍ إيلامُ”. إذن، من هذه الناحية، لتطمئن الوزارة الموقرة، والعمداء الأجلاء، والكادر الجامعي المرتاح؛ نحن نشرح هنا جثة، وليس جسدًا حيًا نتخوف على مشاعره وأعصابه وصراخه ..!
أولًا : لا يوجد على جدول عمل الدولة، ولا الحكومة، ولا الوزارة، ولا الأحزاب السياسية ولا المركزيات النقابيّة ، ولا حتى المجتمع المدني أو الأكاديمي، شيء اسمه “بعث الحياة في الجامعة العمومية” أو “صيانة كرامتها وسمعتها”. ببساطة لأنها خارج الحساب وخارج الإمكان الان على الأقل والى إشعار آخر .
الدولة أسست كيانات موازية من جامعات خاصة ومعاهد تقنية، ووفرت لها الإمكانيات لإنتاج النخب التي تحتاجها الإدارة والاقتصاد في التخصصات التقنية. وابتعدت عن الجامعات التي تسميها تلطفًا “ذات الاستقطاب المفتوح”، أي جامعات أبناء الفقراء غير القادرين على دفع تكاليف الدراسة في جامعات ومعاهد “الحبة”.
إذن، المسألة محسومة: خريجو جامعات النخبة في بنجرير وسلا والرباط والبيضاء وعدد من مدارس المهندسين، بالإضافة إلى خريجي الجامعات الفرنسية والأمريكية والإنجليزية، سيلتحقون بالقطاعين العام والخاص لإدارة عجلة الاقتصاد والإدارة والمشاريع ،
بينما سيجد الباقون من أبناء الفقراء أنفسهم في مدرجات مكتظة بالطلبة لأربع سنوات أو أكثر، لينضموا بعدها إلى صفوف البطالة التي تصل إلى 40% في أوساط الشباب المتعلم نسبيًا. كم حاجة قضيناها بتركها!
ثانيًا : إذا كانت هذه هي السياسة العليا للدولة، التي خلقت كيانات موازية للجامعة العمومية لأنها لا تملك الإرادة السياسية ولا الميزانية الكافية لإصلاحها، فلماذا نبكي اليوم على ماستر “مدرح” أو أستاذ قلبها بيعًا وشراءً في شهادات لا تساوي حتى الورق المذهّب المطبوعة عليه ..؟
إذن، دكتور الماستر هذا هو ابن هذه السياسة البار، ومنتوج هذه الكارثة الوطنية.
فالأولى بالمحاكمة هي السياسة العمومية التي تركت سفينة الجامعة تغرق بأسرع مما غرقت به سفينة تيتانيك في فيلم المخرج الكندي جيمس كاميرون (James Cameron).
ثالثًا : لا تذهبوا بعيدًا لقياس مدى صحة أو بالأحرى خطورة مرض الجامعة العمومية وكادرها العلمي لا تطالعوا تصنيف جامعاتنا في العالم ولا تقارير الخبرة الوطنية والدولية .
فقط افتحوا قنوات الإعلام العمومي، وإذاعات المسخ الخاصة ، وتابعوا مداخلات جل الأساتذة الجامعيين الذين يحملون درجة الدكتوراه، ويُقدَّمون بأوصافهم الأكاديمية ياحسرة ، وتفحصوا ما يقولون وما يرددون من خزعبلات دعائية وتطبيل رديء للسياسات الحكومية ببلاهة لا يمكن أن يرددها حتى مراهق في العاشرة من عمره. وكلهم بربطات عنق وألقاب علمية وآثار نعمة مغشوشة ..!
حتى صار من بقي يتابع هؤلاء “الدكاترة” والعمداء والأساتذة في الإعلام يعتبر مداخلاتهم عقابًا وتعذيبًا نفسيًا للمشاهد لا يُحتمل.
إذن، ما الفرق بين دكتور يبيع الشهادات في الكلية لمن لا يستحقها، ودكتور يبيع للجمهور الوهم والسحر والدعاية الرخيصة كل مساء ..؟ الأول يزور الشهادة، والثاني يزور الحقيقة؛ الأول ضرره محدود، والثاني ربما ضرره أكبر بكثير.
الخلاصة :
لنفتح العيون لنرى ما لا يُرى دائمًا، ولنتمعن فيما وراء الصورة، ولنُزِل من أمامنا الشجرة التي تخفي الغابة، حيث تنام هناك ثعابين مرقطه وذئاب جائعة وآكلو النمل بألسنة ملساء لزجة، يصطادون ضحاياهم بأكثر الأساليب نعومة.
رحم الله جوزيف ناي، الأستاذ الجامعي المبرز، ناحت مصطلح “القوة الناعمة”، مع الاعتذار له وهو في قبره على ذكر اسمه وجامعته (هارفارد) في معرض الحديث عن جامعاتنا وأساتذتنا. ومع الاعتذار أيضًا للقلة من كوادرنا الجامعية التي أصبحت تعيش غربة قاتلة في هذا الوسط وهي ما زالت تكافح لأداء وظيفتها في الجامعة المغربية، ولو فوق هذا الخراب الذي عمّ البر والبحر والجو، فالاستثناء لا حكم له ولا عليه…
استطراد لا داعي له
في كتابه “نظام التفاهة” (La Médiocratie)، يقدم الفيلسوف الكندي آلان دونو نقدًا لاذعًا للوسط الجامعي والأكاديمي الغربي ، معتبرًا أنه أحد الميادين التي أصبحت تساهم بشكل فعال في تكريس التفاهة وانتشارها.وذلك من خلال :
-الأستاذ الموظف بدلًا من المثقف المفكر.
ينتقد دونو تحول الأستاذ الجامعي إلى مجرد موظف ينفذ ما يُطلب منه دون أي روح نقدية أو تفكير مستقل، ويرى أن الأكاديميين أصبحوا يفضلون الراحة الوظيفية والرواتب المستقرة على خوض معارك فكرية أو اجتماعية قد تزعج السلطات أو تُعرّضهم للمساءلة، فأصبح هدف الكثيرين هو البقاء في “منطقة الأمان”، حيث يركزون على ترقياتهم ومناصبهم بدلًا من إنتاج معرفة جديدة أو المساهمة في تطوير المجتمع.
-التملق للسلطة : ينتقد دونو الأساتذة الذين يتحولون إلى مروجين لسياسات الحكومات والشركات، ويعيدون إنتاج الأيديولوجيات المسيطرة بدلًا من نقدها، ويرى أن الكثير من الأكاديميين أصبحوا يسعون لكسب رضا السلطة على حساب الاستقلالية الفكرية، ويقدمون أنفسهم كخبراء يمكن استغلالهم لتبرير قرارات سياسية أو اقتصادية..
طبعا لم يدر في خلد دونو ان بعض أساتذة جامعاتنا لا يبيعون خبرتهم بل يبيعون الكارتون حرفيا، كارتون شهادات جامعية فارغة سوى من اعتمادها للعبور إلى مهن حساسة جدا مهن قضائية وأمنية تقرر في مصائر البشر..
فالطبيعة لا تقبل الفراغ، واذا لم نملأها بالعلم والمعرفة يملؤها الآخرون بالكارتون.
Discussion about this post