رأي في التنمية الترابية المندمج
إن الهدف الأساس من برامج التنمية الترابية المندمجة التي تم الإعلان عن انطلاق مناقشتها مؤخرا على مستوى العمالات والأقاليم، هو تحسين مستوى العيش الكريم لأفراد المجتمع في الجماعات الترابية التي تعرف نقصا حادا في التنمية الترابية على عدة مستويات، خصوصا على مستوى ارتفاع معدلات الهشاشة والفقر والبطالة بشكل ملحوظ، لاسيما في العالم القروي.
وفي هذا الإطار، وجب التذكير أن تحسين مستوى العيش الكريم لأفراد هذا المجتمع هو انعكاس طبيعي للسياسات الحكومية والتدابير الترابية في قطاعات محددة مثل الصحة والتعليم والتشغيل والتجهيز … التي تظل تحت مسؤولية مباشرة لمؤسسات حكومية.
إن الأداء الحكومي في القطاعات سالفة الذكر، والأداء التدبيري الترابي ذا الصلة بهذه القطاعات قد يتسم في بعض الأحيان بمسار يتميز بالقصور والنقص لأسباب وعوامل عديدة حيث يترتب عن ذلك وضع يتميز بخصاص واضح في التنمية الترابية على عدة مستويات.
إن تصحيح هذا المسار بما يخدم تصويب هذا الأداء من أجل سد هذا الخصاص الذي من شأنه تجاوز هذا القصور والنقص وتعزيز الثقة والمصداقية في الخطاب الرسمي حول هذا الوضع، يتطلب مراجعة عميقة لمهام مختلف مؤسسات الدولة ذات الصلة بمسلسل التنمية خصوصا الجماعات الترابية بمسألة التمويل المالي لهذه التنمية على عدة مستويات، إذ يمكن في هذا السياق الاستدراك مؤقتا في إطار من هذه المراجعة من أجل إعداد برامج للتنمية الترابية المندمجة تتميز بالسرعة في التنفيذ داخل ٱجال معقولة وتحقيق آثار ملموسة في واقع أفراد هذا المجتمع.
وفي هذا الإطار، يطرح السؤال المركزي التالي:
ما برامج التنمية الترابية المندمجة التي يمكن تنفيذها داخل آجال معقولة وتحقق آثارا ملموسة على واقع أفراد هذا المجتمع؟
إن الجواب على هذا السؤال المركزي يتجلى في اعتماد مقاربة علمية تشاركية تنهل من تجارب ترابية رائدة وخبرات علمية متميزة تقوم على أساس تشخيص ترابي محلي عميق في علاقة استشرافية مستقبلية بالامتيازات الترابية التي يتميز بها المجال الترابي حيث يتم تنظيمها في أوراش داخل مختبرات علمية ترابية إقليمية تضم باحثين وخبراء وأطر في شتى المجالات المعنية بهذه التنمية الترابية بمشاركة ومساهمة فاعلين ترابين أساسيين مثل رؤساء الجماعات الترابية من أجل بلورة مخرجات تعبر عن الحاجيات الأساسية التي يمكن أن تتجسد في برامج للتنمية الترابية المندمجة قابلة للتنفيذ في أسرع وقت ممكن ولها أثر ملموس على واقع أفراد هذا المجتمع.
إن هذه البرامج لابد أن تنطلق من رؤية مندمجة ومتكاملة تشمل توظيف تراكم منجزات القطاعات سابقة الذكر على المستوى المحلي ضمن بوثقة التقائية تفضي الى بلورة مشاريع مولدة للموارد المالية بشكل مستدام تنعكس ايجابيا على تلبية وإشباع الحاجيات الأساسية المتعددة والمتجددة والمتزايدة عبر الزمن و المرتبطة بهذه القطاعات بما يحقق العيش الكريم لأفراد هذا المجتمع.
إن تحقيق هذا العيش الكريم في أدنى حد له انطلاقا من تنفيذ هذه البرامج يستوجب استحضار المصلحة العامة بقوة والتحلي بالمسؤولية الكاملة عند تنزيل هذه البرامج. وفي هذا السياق، يتعين أن يكون هذا التنزيل وفق مقاربة تشاركية مؤسساتية، تكون المؤسسات المنتخبة في قلب هذا التنزيل منخرطة بكل تجرد وموضوعية.
إن هذا العيش الكريم في الحد الأدنى التي تسعى برامج التنمية الترابية المندمجة إلى تحقيقه يمكن أن يتم من خلال برامج تتخذ عدة أشكال، تتجسد عمليا على أرض الواقع من خلال عدة نماذج واقعية قابلة للتنفيذ منسجمة مع ما تم ذكره آنفا.
وفي هذا الإطار ، أقترح برنامجا للتنمية الترابية المندمج يشمل قطاع الصحة والتعليم والتشغيل والتجهيز على النحو السالف للذكر، والمتمثل في إحداث مجمع مهني قروي الذي سيتم عرض بعض تفاصيله التقنية التي تفي بالغرض من حيث بيان أهميته وقابلية تنفيذه على أرض الواقع.
إن هذا المجمع المهني القروي يتكون من مايلي:
– مركز لتجميع واستخراج مشتقات الحليب وتسويق منتجاته في الجماعات التي نشاطها الفلاحي الأساسي هو تربية المواشي مثل الأبقار والأغنام.
– مركز لتقديم خدمات السياحة القروية في الجماعات التي تتميز بطبيعة خلابة وفضاءات طبيعية متميزة وأماكن طبيعية جاذبة من خلال الضيعات النموذجية الموجهة أساسا لفئة معينة من المجتمع مثل المتقاعدين داخل المغرب وخارجه و الموظفين والأجراء.
– مركز لاستقطاب وتوطين انشطة المقاولات المتوسطة في مجالات معينة التي تتطلب يد عاملة في مستوى علمي و مهني متواضع أو متوسط في الجماعات التي تحتل موقعا استراتيجيا من حيث الجانب اللوجيستيكي من قبيل القرب من الطريق السيار والميناء المتوسط والمحور الاقتصادي: القنيطرة – الرباط- الدار البيضاء، و مجاورة لعدد من المدن المهمة مثل طنجة وتطوان التي تعرف حركة نقل نشطة من قبيل القطار ..
– مركز التكوين في مجالات معينة مثل صناعة مشتقات الحليب وتسويق منتوجات السياحة القروية و تدبير الأنشطة الاقتصادية التي تتطلب مستوى علمي و مهني متواضع أو متوسط في الجماعات القريبة من المدن الكبرى التي بها مؤسسات جامعية ومؤسسات التكوين المهني … مثل طنجة و تطوان …
– يتم تمويل إحداث هذا المجمع المهني القروي من قبل مؤسسات الدولة في إطار من اتفاقية الشراكة مع الجماعة بحيث تعود ملكية هذا المجمع إلى الجماعة الترابية التي يوجد بها هذا الأخير.
– يتم تسيير هذا المجمع في إطار من اتفاقية شراكة بين الجماعة والتكوين المهني والسلطة المحلية.
– يتم تنشيط هذا المجمع المهني القروي في إطار من اتفاقية الشراكة بين الجماعة والجمعيات والسلطة المحلية.
إن إحداث هذا المجمع المهني القروي سيمكن من تحقيق ما يلي :
1. تصريف الفلاحين – الذين تدعمهم مؤسسات الدولة مثل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في الحصول على المواشي – منتجاتهم (الحليب) من تربية هذه المواشي حيث سيتم تجميع هذه المنتوجات واستخراج مشتقاته وتسويقها وذلك بشكل مستدام، بما يضمن لهم عوائد مالية مهمة يمكن استثمارها في توسيع نشاط تربية المواشي وكذلك القيام بأنشطة فلاحية أخرى. ثم المساهمة في تشغيل فئة مهمة من اليد العاملة العاطلة بتراب الجماعة.
2. استقطاب السياحة الداخلية و الخارجية لفئة من المواطنين وتحقيق إشعاع سياحي واستغلال مساحات مهمة من الأراضي الخضراء قليلة العوائد في أنشطة مدرة للدخل ثم المساهمة في تشغيل اليد العاملة بتراب الجماعة.
M
3. توطين عدد من المقاولات المتوسطة التي ستمكن من إحداث عدد من مناصب الشغل بتراب الجماعة.
4. تقديم عرض تكويني متميز في عدة مجالات لفئة من المجتمع خصوصا فئة الشباب الذين لهم مستوى علمي متواضع أو متوسط بما يتيح لهم تنمية قدراتهم المهنية وصقل مواهبهم الذاتية في هذه المجالات.
كما سيمكن هذا المجمع من تحقيق إنجازات مهمة، من أبرزها مايلي:
– تنمية مداخيل الجماعة:
إن هذا المجمع سيمكن من تعزيز مداخيل الجماعة من خلال الضرائب المهنية التي ستؤديها هذه المقاولات المتوسطة والضيعات النموذجية والمؤسسة الخاصة بتعاونيات الحليب لفائدة الجماعة، ثم من خلال مداخيل الكراء لفائدة الجماعة التي ستدفعها التعاونيات مقابل كراء المركز المخصص لها، وكذلك من خلال مداخيل التكوينات التي يتم دفعها من قبل المستفيدين منها لفائدة الجماعة.
إن هذه المداخيل الجماعية التي تم تنميتها من خلال ما سبق ذكره ستسهم لا محالة في تحقيق مستوى معين من التنمية الترابية مثل إصلاح المسالك والطرق و معالجة النقط السواد للصرف الصحي، إضافة إلى توسيع دائرة الإنارة العمومية وتجويد خدمات النظافة وإحداث ملاعب القرب وفضاءات الاستراحة وتجويد الخدمات الادارية والصحية … بتراب الجماعة.
– اصلاح البنية التحتية:
كما أن إنجاز هذا المجمع سيمكن من إصلاح أجزاء مهمة من البنية التحتية بتراب الجماعة التي توجد في المجالات الترابية المؤدية إلى المقاولات المتوسطة، أو تلك التي تمكن من تسهيل الولوج إلى الضيعات النموذجية، أو تلك الواقعة في مجالات ترابية معروفة بإنتاج الحليب بوفرة.
– تطوير المركز الصحي:
إن إحداث الضيعات النموذجية وفق التوصيف المذكور سابقا، سيفضي إلى تعزيز بنية المراكز الصحية من حيث التجهيزات الطبية والموارد البشرية تفاعلا مع متطلبات هذه الضيعات من حيث تجويد خدماتها المقدمة لزبنائها الذين ينتمون ألى فئة خاصة التي تستوجب اهتماما خاصا بالجانب الصحي لهذه الفئة.
– التكوين المهني:
فتح مجال التكوين المهني لفئة عريضة من الشباب، التي لها تكوين علمي ومهني متواضع أو متوسط، مما سيمكنهم من الولوج إلى مناصب الشغل بتراب الجماعة في المجالات سالفة الذكر.
– التشغيل:
إن إحداث مراكز لتجميع الحليب ومشتقاته وتسويقه، ثم إحداث الضيعات النموذجية، وكذلك استقطاب وتوطين المقالات المتوسطة سيؤدي إلى خلق مناصب شغل عديدة بتراب الجماعة خصوصا في فئة الشباب.
* مصطفى الحشلوفي أستاذ باحث بجامعة الحسن الثاني
Discussion about this post