بقلم الدكتور عزالدين العزماني
حقق المنتخب الوطني المغربي لأقل من 20 سنة إنجازًا تاريخيًا بتتويجه بكأس العالم لكرة القدم لهذه الفئة. وقد جاء هذا الانتصار الرياضي في سياق يتّسم بتزايد السخط الشعبي إزاء الأداء الحكومي، خصوصًا في قطاعات حيوية مثل التعليم، والصحة، والتشغيل، والعدالة. هذا التزامن بين شعور بالفخر الوطني من جهة، واستياء اجتماعي من جهة أخرى، أفضى إلى ردود فعل متباينة داخل المجتمع المغربي: فبينما رأى فيه البعض لحظة اعتزاز جماعي، اعتبره آخرون مجرد أداة لتشتيت الانتباه عن قضايا أكثر إلحاحًا. نحن إذن أمام توتر بنيوي يميز المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية مجتمعية، سواء على المستوى الجيلي أو السياسي أو التنموي.
تبرز في هذا السياق مفارقات حادة في تلقي الحدث؛ إذ إن فوز منتخب وطني، خصوصًا من فئة شبابية، في محفل عالمي، يُفعّل علاقات الانتماء ويعزز الشعور بالهُوية الوطنية. غير أنه، في أوقات الأزمات أو في ظل شعور جماعي بالعجز، تتحول الإنجازات الرياضية إلى وسيلة تعويض رمزي عن الفشل في مجالات أكثر تأثيرًا كالسياسة والاقتصاد والعدالة. لذا لا يمكن اختزال الفرح الجماعي في مجرد احتفال بنتيجة رياضية، بل يجب قراءته أيضًا كتعبير رمزي عن تطلعات مجتمعية أوسع. هذا ما يفسر “انفجار الفرح” لدى فئات من المجتمع، حيث لا يتعلق الأمر بكرة القدم في حد ذاتها، وان كان ذلك مهما باعتبارنا شعبا متوسطيا عاشقا للكرة المستديرة، بل أيضاً بلحظة ربما قد تكون نادرة من استعادة الكرامة والإحساس بالانتصار، وهي مشاعر قد لا يجدها الكثيرون في تفاصيل حياتهم اليومية.
لكن هذا الفرح لا يخلو من تناقضات. فالبعض يشعر بنوع من التنافر الشعوري، أي التوتر الناتج عن محاولة التوفيق بين الفرح بانتصار رياضي والاستياء من أوضاع اجتماعية متدهورة. كيف نحتفل بكرة القدم، بينما نُدين واقع الصحة والتعليم؟ هذا التوتر قد يؤدي إما إلى تحفظ وتبخيس للمنجز الرياضي، أو إلى فصل ذهني مؤقت بين المجالين: “نفرح اليوم ونحتج غدًا”، كآلية نفسية لحل التناقض الداخلي. بالمقابل، هناك من يرى في التركيز المفرط على الرياضة نوعًا من اللاعدالة الرمزية، إذ تُمنح الكرة أولوية لا تحظى بها قطاعات أساسية، مما يعمق الإحساس بانعدام التوازن في السياسات العمومية.
لا شك أن الانتصارات الرياضية تمثل محفزات قوية للهُوية الجماعية وآليات فعالة للتفريغ العاطفي. فهي، بالنسبة إلى شرائح تعاني من التهميش أو الإقصاء أو الإحباط المزمن، تشكّل لحظات نادرة لاستعادة الإحساس بالكرامة والانتماء. لكن في المقابل، غالبًا ما تُوظف هذه الإنجازات ضمن استراتيجيات بناء الشرعية السياسية، لا سيما في الدول النامية أو تلك التي تمر بتحولات انتقالية كبرى.
في هذا الإطار، يمكن فهم البلاغ الذي أصدرته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ووصفت فيه هذا التتويج بأنه “تجسيد حي لقيمة الإحسان والإتقان كما دعا إليها الدين الحنيف”، داعيةً إلى “الاقتداء بهذه التجربة الناجحة في مختلف مجالات الحياة خدمة للدين والوطن”. هذا التدخل التأويلي يُبرز محاولة لإضفاء رمزية دينية على منجز دنيوي، وهو ما يذكّر بنظريات ماكس فيبر حول “الأخلاق البروتستانتية” باعتبارها قاعدة تأسيسية لروح العمل والفعالية في الرأسمالية.
من هذا المنظور، لا يبدو أن استثمار الدولة في البنيات التحتية الرياضية وتنظيم التظاهرات العالمية يهدف فقط إلى تحقيق مكاسب اقتصادية أو تسويقية، بل يُراد منه أيضًا إعادة تشكيل الصورة الذاتية للدولة أمام المواطنين والعالم. غير أن هذا الاستثمار، عندما يتم في سياق تفاقم الأزمات الاجتماعية، يطرح تساؤلات حادة حول أولويات السياسات العمومية وعدالتها. فحين يشعر المواطن أن الدولة تُنفق بسخاء على ملاعب عالمية، بينما تعاني المدارس والمستشفيات تحت وطأة الإهمال، فإن ذلك يُقوّض الثقة السياسية ويفتح النقاش حول العدالة التوزيعية ليس فقط كمطلب اقتصادي، بل كمكون أساسي للاستقرار المجتمعي.
هذه المفارقة ليست حكرًا على المغرب. ففي الأرجنتين، خلال الحكم العسكري (1976–1983)، استُغل الفوز بكأس العالم 1978 للدعاية السياسية، رغم ما رافقه من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وفي جنوب إفريقيا، أُثير الكثير من الجدل حول الإنفاق الضخم على البنية التحتية لمونديال 2010، في ظل أوضاع اجتماعية مزرية. أما البرازيل، فقد شهدت احتجاجات شعبية واسعة في 2013 و2014، اعتراضًا على سوء توزيع الموارد، ورفعت فيها شعارات تطالب بـ”مستشفيات ومدارس بمستوى الملاعب”.
ما تكشفه الحالة المغربية هو أن المجتمع يعيش مرحلة تحوّل معقّدة، تتداخل فيها مشاعر الفخر الوطني مع وعي نقدي متزايد بالأبعاد الاجتماعية والسياسية لهذا الفخر. ومن هنا، فإن تباين ردود الأفعال لا يعكس اختلافًا في مدى الانتماء للوطن، بل يُعبّر عن تنوّع في كيفية فهم هذا الانتماء وشروطه في سياق انتقالي دقيق. فالنقد لا يُوجَّه إلى الإنجاز ذاته أو إلى الكفاءات القائمة عليه، بل إلى طريقة توظيفه في ظل غياب العدالة الاجتماعية وتفاوت توزيع الموارد في قطاعات أساسية تمسّ كرامة الإنسان.
ولمواجهة هذا التناقض البنيوي، ووضع حد لما يبدو أحيانًا كصراع مفتعل بين الوطنية والمواطنة، أو بين التعبير عن الانتماء وممارسة النقد السياسي، لا يكفي الاكتفاء بالاحتفاء بالنجاحات الرياضية واعتبارها دليلًا على إمكانات النهوض وقدرتنا على الإنجاز والإبداع. بل المطلوب هو تحويل هذا الزخم العاطفي إلى فرصة لصياغة تصوّرات جديدة لنموذج تنموي متوازن، يقوم على الاستثمار الحقيقي في الإنسان، ويؤمن بقدرة الشباب على بناء مستقبل أفضل.
ومن الممكن تجاوز منطق الاستقطاب في التعامل مع هذه الإنجازات، من خلال إدماجها في إطار تقييم شامل للسياسات العامة ذات الصلة، يَستَحضِر هذه النجاحات ضمن رؤية أوسع. وهذا يستدعي شفافية تتيح إشراك المواطنين في نقاش عمومي مفتوح حول أولويات الإنفاق العمومي. وعوض تسييس المنجزات، يمكن للدولة أن توظفها في تسييس التطلعات، عبر الحفاظ على البعد الشعبي والوطني لهذه النجاحات، وفي الوقت ذاته تحويل لحظات الفرح الجماعي إلى فرص لإطلاق إصلاحات مؤسسية عميقة، خصوصًا في مجالات التعليم، والصحة، والتكوين، بما يضمن تحويل النجاحات الظرفية إلى مكتسبات تنموية مستدامة.
Discussion about this post