الخطبة الموحدة بالمغرب بين التنظيم والتضييق: حين يتحول الخلاف الإداري إلى اتهام عقدي
أعاد الجدل المتجدد حول الخطبة الموحدة بالمغرب، التي تعتمدها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى الواجهة سؤالاً قديماً جديداً: أين تنتهي حدود التنظيم المشروع للشأن الديني، وأين يبدأ التضييق غير المبرر على حرية التبليغ والاجتهاد؟ وهو نقاش لم يعد تقنياً أو فقهياً فحسب، بل أخذ أبعاداً فكرية وسياسية ودستورية، خاصة بعد توظيف مفاهيم عقدية في توصيف الاختلاف حول قرار إداري.
فالخطبة الموحدة، في أصلها، تُقدَّم باعتبارها آلية لضبط الخطاب الديني، وحماية الأمن الروحي، وتوحيد المرجعيات في سياق إقليمي مضطرب. غير أن الإشكال لا يكمن في مبدأ التنظيم، بل في تحويله إلى إلزام صارم، ثم الانتقال من الدفاع الإداري إلى التخوين الديني، كما حدث عندما وصف وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق بعض المنتقدين بـ”الفتانين الخوارج”.

وفي هذا السياق، جاءت تدوينة الأكاديمي محمد حامي الدين لتفتح نقاشاً أعمق، لا حول الخطبة في حد ذاتها، بل حول منهج تدبير الاختلاف داخل الحقل الديني بالمغرب. فوزارة الأوقاف، رغم خصوصية موقعها واختصاصاتها، تظل مؤسسة عمومية تصدر قرارات بشرية، لا نصوصاً مقدسة، ولا فتاوى معصومة من النقد أو المراجعة.
إن أخطر ما يطرحه هذا الجدل هو الخلط بين القرار الإداري والموقف العقدي. فانتقاد خطة تنظيمية، أو المطالبة بهامش اجتهاد للخطيب، لا يمكن أن يُنزَّل منزلة الخروج عن الجماعة، ولا أن يُوصَف بلغة تاريخية مشحونة لها حمولة دموية وثقيلة في الذاكرة الإسلامية. هذا الانزلاق، في حد ذاته، يفرغ الخطاب الديني من روحه المقاصدية، ويقوض الثقة في المؤسسات بدل تعزيزها.
الأكثر إثارة للتساؤل، كما يشير الدكتور محمد حامي الدين، هو انتقائية التدخل الديني. إذ في الوقت الذي يُشدد فيه الخطاب الرسمي على الخطباء المنتقدين للخطبة الموحدة، لا نكاد نلمس الحزم نفسه في مواجهة ظواهر أخطر، مثل إنكار السنة، أو السخرية من القرآن، أو التشكيك في الثوابت الجامعة، أو العبث بمفهوم “التمغربيت” وضرب الهوية الدينية والثقافية للمغاربة.
فكيف يمكن الحديث عن “تسديد التبليغ” بينما يُضيَّق على الخطيب الذي يتفاعل مع قضايا حيه ومدينته، دون أن يمس الثوابت أو يهدد النظام العام؟ وكيف يستقيم خطاب ديني يطالب بالالتزام الحرفي بخطبة مركزية، لكنه يغض الطرف عن خطابات تشكك في أصول الدين ورموزه؟
لقد تميز النموذج الديني المغربي تاريخياً بقدرته على الموازنة بين الثابت والمتغير، وبين المرجعية الشرعية والواقع الاجتماعي، وبين سلطة العلم ومسؤولية الحرية. ولم يكن إشعاعه في إفريقيا وأوروبا وليد خطاب موحد جامد، بل ثمرة إسلام وسطي، يرفض التعصب كما يرفض الوصاية المطلقة، ويؤمن بأن قوة الدين في إقناعه لا في فرضه.
إن الخوف الحقيقي ليس من اختلاف الخطباء، بل من تجفيف روح الخطبة وتحويلها إلى نشرة إدارية، تُقرأ دون تفاعل، وتُلقَى دون أثر. وعندما يُدار الاختلاف بمنطق الاتهام بدل الحوار، فإن النتيجة تكون عكسية، لا تخدم لا الدين ولا الدولة ولا المجتمع.
وفي النهاية، يظل النقاش حول الخطبة الموحدة فرصة لإعادة التفكير في حكامة الشأن الديني، على أساس الثقة، والانفتاح، واحترام التعدد داخل الوحدة، بدل توسيع دائرة الشك والتخوين. فالدين الذي صمد قروناً بالتعدد والاجتهاد، لا يمكن أن يُحمى بإقصاء أصوات النقد، بل بترشيدها ودمجها في نقاش مسؤول.
















Discussion about this post