بشكل عفوي خرجت في عدة مدن مغربية احتجاجات شبابية عارمة، بما في ذلك مدينة طنجة التي تسوق لها الدعاية الرسمية في تقارير التلفزة العمومية على أنها مدينة “الرفاهية” و “الازدهار” ووجهة استقطاب اقتصادي لعمالقة الصناعة، والشركات الدولية، على غرار رونو، أبتيف، ليير الأمريكية، وسانتوري الصينية، وميناء طنجة المتوسط، والمنطقةالصناعية للسيارات، و مدينة طنجة تيك. زغيرها من المشاريع الاستثمارية الكبرى.
لكن مع كل هذه المعطيات فإن صناعة الثروة التي تنتجها مدينة طنجة، تستفيد منها أقلية أوليغارشية، بينما لا ينال منها الشبان والشباب الذين يشكلون هرم القوى العاملة، سوى أجور زهيدة تتراوح ما بين 3200 و 5000 درهم، وهي أجور لا تكفي لتحقيق حلم امتلاك سكن اقتصادي في ظرف 20 سنة، ولا تكوين أسرة وتوفير متطلباتها وأعباءها في ظل رداءة جودة الخدمات الصحية في المستشفيات العمومية، ومؤسسات التعليم العمومي، أساسا مما يرفع تكاليف الحياة على هاته الفئة.
إن هذه المعطيات التي يعي بها الشباب الصاعد في مختلف أنحاء المملكة، بما في ذلك مدينة طنجة ثالث أكثر مدينة مغربية مساهمة في الناتج الداخلي الخام، هي التي تحدد مساره المهني واختياره الاجتماعي، إما يختار الركون للبطالة والبقاء خارج سوق الشغل، وإما يزاول عملا في هاته الظروف الغير الملائمة للطموحات والانتظارات، وذلك تحت وطأة الاضطرار من أجل تأمين مدخول شهري في أمس الحاجة إليه، بينما نفسيته ناقمة وساخطة على الوضع العام.
من هم جيل زد و من أين خرجوا ؟
يعكس جيل زد تحولا جذريا في الأنساق التفكيرية والسلوكية للإنسان، فالجيل الذي ازداد في حقبة الثورة التكنولوجية ونشأ مواكبا لتطورات أنظمتها وما أفرزته من تطبيقات تواصلية وترفيهية وخدماتية، جعلت الجيل الصاعد يُغير مفاهيم الانتماء والانتساب من الأسرة والعائلة والطائفة الدينية والحركة السياسية، إلى غرف العالم الافتراضي وما يعرضه صناع المحتوى من “تجارب الحياة”، وهو ما يفسر رغبة الجيل الصاعد في المساواة مع المجتمعات المتقدمة والنماذج المزدهرة للعيش.
ويحدد أغلب الخبراء أن جيل زد هم المواليد الذين ازدادوا أواخر التسعينات وحتى منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، لذلك لا غرابة في أن حياتهم تدور بشكل كامل في ارتباط مع الهواتف الذكية وأنظمتها التكنولوجية المرتبطة بها.
ويتقاطع أفراد الجيل “زد” الذين يتواصل مع فيما بينهم عبر تطبيق Discord في أنهم يشعرون بأي تمييز ملموس بين حياتهم المادية أو الرقمية، ولهذا التغيير جملة من التأثيراتعلى شخصة الإنسان وعلى انتظاراته ونظرته للمستقبل.
الميزة السلوكية لجيل زد
تميزت احتجاجات الشبان والشابات المشاركين والمشاركات في الوقفات والتظاهرات التي خرجت في مذينة طنجة، بـ “السلمية” و “النضج” بعيدا عن التشنجات والتوتر حتى في اللحظات التي تدخلت قوات الأمن، وأشخاص بزي مدني لا صفة ضبطية لهم في اقتياد وإيقاف الناس، ومع ذلك حافظ الشبان والشباب المحتجين على هدوءهم ولم ينجروا إلى ردود فعل غير محسوبة العواقب.
بل أكثر من ذلك، كانت مواقف المتظاهرين واضحة للحد الذي يدفع كل اللبس، ويفند كل الاتهامات الجاهزة، حيث أكد شباب جيل زد أنهم وطنيون ومتمسكون بالتوابث سواءا لملكية أو الوحدة الوطنية، إذ جاءت هذه الإشارات في البلاغات الصادرة عن هؤلاء الشباب في تطبيق التواصل الخاص بهم، كذا الدعوات للتظاهر ومه الاثنين 29 شتنبر منشورة في منصات التاصل الاجتماعي فايسبوك، تايكتوك، إنستغرام.
الخريطة الديموغرافية للمتظاهرين
ينتمي غالبية الشباب الذين تظاهرو يومي 27 و28 شتنبر في مدن المملكة الكبرى، إلى جيل ما بعد 2000 أي أننا أمام جيل صاعد ناقم على الأوضاع على خطى الآباء والأجداد الذين يناضلون منذ الثمانينات على تحسين مستوى العيش وتجويد خدمات الصحة العمومية والتعليم في بلد يزخر بالخيرات المعدنية والبحرية، والتي تحوم حولها سياسة تعتيم مثيرة للريبة والشكوك، حول كمياتها واحتياطاتها وحجم تصديرها وقيمة عائداتها.
بمعنى أننا أمام موجة جديدة من نسخة حركة 20 فبراير قبل 14 سنة، أي أن شرروط عودة نفس الزخم الاحتجاجي نضجت بما فيه الكفاية أمام مسلسل طويل من التراجعات الحقوقية والاعتقالات السياسية منذ حراك الريف على الأقل سنة 2017 والذي اشتعل أصلا بسبب مقتل بائع سمك في شاحنة النفايات إثر حجز بصاهته بشكل تعسفي، وذلك دون محاسبة الأيادي التي كانت وراء المأساة بشكل مباشر.
ورغم محاولات تدجين المراهقين و الشباب وإلهاءه برياضة كرة القدم، ومهرجانات الصيف ومهرجانات الراب، إلا أن هاته الفئات جميعها من الشباب والشابات، والذين يشكلون تنوعا من حيث الانتماءات الثقافية والفكرية ومختلفين حتى في أنماط الحياة، إلا أنهم تحالفوا بشكل غير مُخطط له على الالتقائية في نقطة معينة وهي “حرية التعبير” عن هاته الفئة العمرية المقصية من مراكز صناعة القرار، والمُبعدة من التمثيلية في المؤسسات اللهم بشكل صوري في بعض المناصب، والمقصية من التشاور في التخطيط للسياسات العمومية.
إن هؤلاء الشباب يتأطرون بعيدا عن المؤسسات التقليدية وبعيدا عن الأحزاب وعن مؤسسات التعليم، بل وحتى تأثير الأسر الحديثة لم يعد مُوجها، إذ أن البيئة المؤثرة في الحركة والسلوك وطرق التفكير، صارت تُنتج في منصات التواصل الاجتماعي، و تُصدر إلى البيوت والمجتمع ثم إلى الفضاء السياسي العام، لتصنع خرائط جديدة ووعيا جديدا قائم على القناعات الذاتية وليس مُفبركا أو مدفوعا من جهة إديولوجية.
وهكذا، جمعت حركة جيل Z كل هاته التوجهات والروافد التعليمية والتكوينية والثقافية المتناقضة، في بوثقة احتجاجية واحدة، مطالبها اجتماعية وحقوقية واقتصادية، وقد تجسد ذلك في شعارات من قبيل “حرية كرامة عدالة اجتماعية، ثم شعار “الشعب يريد إسقاط الفساد” وهذه شعارات سبق أن رفعتها حركة 20 فبراير سنة 2011، في سياق الربيع العربي، لكن الشعار الجديد اليوم هو شعار “الصحة والتعليم أولا ما بغيناش كأس العالم”، وهو ما يعكس وعيا بالأولويات ومطالبا لصناع القرار بإعادة ترتيبها وفق احتياجات المجتمع.
السياق الوطني والدولي
اتسمت هذه الانتفاضة الشبابية مع نواة احتجاجات اجتماعية صرفة، متعلقة أساسا بـ معاناة السكان مع “العطش” و “فك العزلة”، وقد انطلقت أواخر فصل الصيف، في عدد من الأاقليم النائية، جماعة أيت بوكماز إقليم أزيلال واحتجاجات بني ملال، ثم تبعتها جماعات قروية في إقليم بني ملال، ثم في بداية شهر شتنبر خرجت احتجاجات عارمة على مستشفى الحسن الثاني بأكادير، أعقبتها مسيرة على الأقدام لساكنة جماعة قروية في إقليم تاونات صوب ولاية جهة فاس.
وقبل الأحداث الأخيرة، عرف المشهد السياسي في العشرية الأخيرة منذ سنة 2015 على الأقل، تراجعا سياسيا وحقوقيا تمثل في تحجيم أدوار المنتخبين ومصادرة اختصاصاتهم في المؤسسة التشريعية وفي الجماعات المحلية والجهات، مما حول هاته المؤسسات الدستورية إلى مؤسسات صورية.
ثم أحداث حراك الريف التي انتهت باعتقالات ومحاكمات وأحكام ثقيلة في حق نشطاء كانوا يطالبون بتحسين ظروف العيش الكريم في إقليم الحسيمة ورفع التهميش.
أيضا شهدت نفس الفترة عدة مظاهر للتضييق على الأصوات الحرة في مجال الصحافة، والجمعيات الحقوقية، (عمر الراي، توفيق بوعشرين، هاجر الريسوني، النقيب زيان.. وقبل ذلك بثلاث سنوات جرى اعتقال شباب حزب العدالة والتنمية في سياق صراع سياسي كان يستهدف تيار شبابي متشبع بقيم الوسطية والاعتدال والإصلاح من داخل المؤسسات.
ثم في 2018 استمرت الردة الحقوقية عبر اعتقال مجموعة من الصحافيين في ملفات حولها علامات استفهام كثيرة،
وعلى الصعيد الدولي، تحركت هذه الاحتجاجات الشبابية المفاجئة، بعد نجاح ثورة شاب دولة أسيوية مغمورة هي النيبال، احتجاجا على “الفساد” و أيضا ردا على قرار حكومة البلاد حظر منصات التواصل الاجتماعي، ولم تهدأ شوارع نيبال إلا بعد حل البرلمان واستقالة رئيس الوزراء، وكانت احتجاجات عنيفة شهدتها بنغلاديش، وسيرلانكا وأطاحت بحكومات بلادها.
وبالوقوف عند منصات التواصل الاجتماعي، التي ارتفع عدد مستخدميها في المغرب إلى نحو 30 مليون، فإن هاته الوسائط ليست فقد أداء تواصلية وليست وسيلة للترفيه فحسب لدى شريحة كبيرة من المستخدمين المغاربة، وإنما هي وسيلة مدرة للدخل سواء عبر صناعة المحتوى أو التجارة الإلكترونية، أو خدمات تقنية عن بعد.
Discussion about this post